الرأي

دين العمل

خلق الله -عز وجل- الإنسان، وأمره أن يعْمُر الأرض، ولا عُمران لها إلا بالعمل في جميع الميادين، وحتى لا يحتقر أيُّ إنسان العملَ، أو أيَّ نوع منه، فقد نسب الله -سبحانه وتعالى – إلى نفسه العمل، فقال: “أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون”. (سورة يس / الآية 71). ومما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: “أو لم يعلموا بالتفكير والاعتبار أنا خلقنا لأجلهم مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة البقر والغنم والإبل(1)”.

إن من يتأمل آي الذكر الحيكم وأحاديث الرسول الكريم يجدْ كثيرا منها تأمر بالعمل، وتحثّ عليه، وترغّب فيه إلى درجة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال ما معناه إذا قامت القيامة وفي يد أحد من الناس فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها.

لقد أمكن للمسلمين – عندما فقهوا الإسلام، وفهموا مبادئه، والتزموا بما جاء به – أن يبدعوا في شتى ميادين العمل العلمية والمادية، وأن ينشئوا حضارة ما تزال – رغم انحطاطهم وتخلفهم – محل تقدير الدارسين، ومحل إعجاب الباحثين المنصفين في المشارق والمغارب..

ثم خلف من بعد أولئك الأسلاف العظام أَخْلَافٌ طَغَامٌ جعلوا الإسلام مهجورا، وأساءوا فهمه، واستدبروا مبادئه، وجعلوه عضين؛ يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعض، فانحطوا انحطاطا مريعا، ورُدُّوا أسفل سافلين، فصاروا أجهل الأمم بعد علم، وأفقر الأمم بعد غنى، وأذل الأمم بعد عزة، وأسفل الأمم بعد علو بالحق.. وأصبحوا عالة على غيرهم في جميع الميادين، وهم إلى الآن نهبة الناهبين، ومطمع الطامعين، وشماتة الشامتين.. وسيظلون كذلك إلى أن يتبيّنوا الرشد من الغي، ويقلعوا عما هم فيه، ويعودوا سيرتهم الأولى من الإقبال على العلم في جميع فروعه، والانكباب على العمل في جميع ميادينه، وإقامة العدل في جميع أصنافه وأنواعه..

إن من أسباب هذا الانحطاط والتدهور ابتلاء الأمة بطائفة من “العلماء” ظنوا – ويظنون- أنفسهم على شيء، أساءوا فهم الإسلام، فكانوا وبالا عليه، وأصابوا منه ما لم يصب أعداؤه.. ومن سوء هذا الفهم ما زعمه أحد أدعياء التصوف والزهد، وهو ممن يحبون المال حبا جما، ويأكلونه أكلا لمّا، وهو قوله: “السنة ترك العمل اقتداء بأهل الصّفة (2)“.

لو قال هذا “العالم” إن ما أؤمن به وأدعو إليه من “ترك العمل” هو فهمي للإسلام، وهو رأيي الخاص في هذا الشأن لتركناه لفهمه السخيف، ورأيه الوجيف؛ ولكنه أسند ذلك إلى “السّنة”!! وقد يكون “الشيخ” أدرك أنه جاء شيئا إدّا وأتى أمرا فريّا فاستدرك قائلا: “اقتداء بأهل الصّفة”.

و”الصُّفة مكان في مؤخرة المسجد النبوي مظلّل، أعدّ لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له، ولا أهل (3)“، وعليه فـ “الذي ينزل في الصفة فإنما يقيم فيها مؤقتا، ريثما يوجد له مكان، أو يجد عملا فيغادرها (4)“، ولهذا وصفهم أبو هريرة – رضي الله عنه – بـ “أضياف الإسلام”، ومن أمثالنا الشعبية الحكيمة “الضيف ضيف ولو بقى الشتا والصيف”.

فأهل الصفة – إذن – هم أصحاب رسول الله – عليه الصلاة والسلام – وهم كلهم من المهاجرين، ولم يكن منهم أنصاري واحد، وهم ليسوا حلس الصفة لا يبرحونها، ولم يكونوا كسالى وراغبين عن العمل؛ بل كان وجودهم في ذلك المكان اضطرارا لا اختيار فيه… لهذا لم يكن عددهم ثابتا، بل كان يزيد وينقص “فكانوا تارة يقلون، وتارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين(5)“.. فهل من “السنة” الاقتداء بسبعين صحابيا وترك الاقتداء بمئات وآلاف الصحابة الذين كانوا “عمالا” يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله؟

ثم لماذا التيمم في حال وجود الماء، فمن أولى بالاقتداء به آلصّحابة – رضي الله عنهم- أم الذي اقتدوا هم به، وهو رسول الله – عليه الصلاة والسلام- الذي ما كان جامدا ولا خامدا ولا قاعدا؟ فقد عمل وهو فتى، وعمل وهو شاب، وعمل وهو كهل، وكذلك فعل الأنبياء والرسل الذين أمره الله – عز وجل- بالاقتداء بهم، “فبهداهم اقتده”، وما من أحد منهم إلا رعى الغنم كما صح عنه – صلى الله عليه وسلم، وكثير منهم كانوا حرفيين..

إذا استبعدنا الشهادتين فإن نصف الإسلام (الزكاة والحج) لا يؤديان إلا بالمال، ولا مال إلا بالعمل، فمن لا مال له فقد حُرم – في الغالب- نصف الإسلام، وكذلك الجهاد فإن من أَلْزَمِ لوازمه المال، قد ذكر القرآن الكريم أنّ أناسا جاءوا إلى رسول الله – عليه الصلاة والسلام – يريدون الجهاد، فقال لهم: “لا أجد ما أحملكم عليه، تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون”. (التوبة/ 71).

واللاّفت للنظر أن لفظ “الزهد” لم يرد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة، حيث وصف الله – سبحانه – به أولئك الذين شروا سيدنا يوسف – عليه السلام- (أي باعوه) بثمن بخس، “وكانوا فيه من الزاهدين”، فليس في منطوق هذه الآية ولا مفهومها مدح للزهد، ولا حثّ وحضّ عليه، ولا ترغيب فيه؛ بل الذي يفهم منها أنها أقرب إلى الذم، لأن أولئك الذين باعوا يوسف – عليه السلام- لم يَقْدُرُوه حق قدره، ولم يقوموه حق قيمته، خاصة أن الذي اشتراه لم يكن يشكو قلة ذات اليد.

إن الأمة الإسلامية لم تخل – ولن تخلو- من فقيه يُبَصِّرُها- أو فقهاء يبصرونها بما جاء به هذا الدين القيم، الذي ما ترك خيرا إلا أرشدها إليه ودلّها عليه، وما ترك شرا إلا حذّرها منه ونهاها عنه، ومن هؤلاء الفقهاء ذوي الأنظار السديدة والأبصار الحديدة في تاريخنا المعاصر في بلدنا هذا الشيخ مبارك الميلي – رحمه الله، ورضي له قولا وفعلا- حيث جاء في تقريره المالي الذي قدمه للمؤتمر الخامس لجمعية العلماء المسلمين الجزائرين، في 17 سبتمبر 1935، مخاطبا المؤتمرين، ومن ورائهم جميع الجزائريين، ما يلي: “فأنا أوصيكم بحب المال، ولكن باعتباره وسيلة للسعادتين، وإنما ذمّ اللّه المال إذا كان حبّا جمّا، يستولي على القلوب فيزيل منها الرحمة، وعلى العاطفة فيأخذ منها الرقة، وعلى المشاعر فينزع منها غريزة الميل إلى السمعة الحسنة.. وإن حب المال على ما أوصيتكم به هو عين الزهد الذي جاءت به شريعتنا، لا ذلك الزهد المكذوب، المتصوّر بالمقلوب كأغلب تصوراتنا الدينية والحيوية (6)“. وصدق الإمام الإبراهيمي الذي كان يقول: “إن في الفقه فقها”.

لا أهنىء أنفسنا بـ “عيد العمال” لأننا – في الغالب- لا نعمل، وإنما نحن – كما يقول بعضنا – : “راڤده وتمانجي” كأننا “أنعام مجترة” بينما القرآن الكريم يقول: “فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه”.

 .

هوامش:

1) محمد سليمان الأشقر: زبدة التفسير من فتح القدير، وهو اختصار لتفسير الشوكاني.

2) جريدة البصائر ع111 (سلسلة 2) في 29 / 4 / 1930. ص6.

3) صالح أحمد الشامي: أهل الصفة، دار القلم – دمشق. 1999. ص6.

4) المرجع نفسه ص35.

5) مجموع فتاوى الإمام ابن تيميه. ج11 ص 42، ط. المغرب

6) سجل مؤتمر جمعية العلماء.. المطبعة الجزائرية الإسلامية… ص82

مقالات ذات صلة