-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ذكرى أول نوفمبر في ظلال الحراك الشعبي

ذكرى أول نوفمبر في ظلال الحراك الشعبي
ح.م

لا شك أن الاحتفال بحلول ذكرى ثورة أوّل نوفمبر العظيمة هذا العام، سيكون له طعم خاص في ظل الحراك الشعبي الذي يمكن اعتباره امتدادا لها. فإذا كانت وثبة نوفمبر قد كُللت بالنجاح فكسّرت نير الاستعمار واسترجعت السيادة الوطنية المغتصبة، فإنه من المنتظر أن تكرّس ثورة الحراك الشعبي سيادة الشعب في تسيير الشؤون العامة للدولة بعد تعطيلها لمدة ستة عقود. ولئن كانت ثورة نوفمبر قد ركّعت الاستعمار الفرنسي المدعّم بالحلف الأطلسي، وأسقطت الجمهورية الفرنسية الرابعة وأكثر من ست حكومات فرنسية، فضلا عن كسب الرأي العام العالمي في الهيئات الدولية وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة، فإن الحراك الشعبي على حداثته قد أثار إعجاب العالم في سعيه إلى تحقيق تحوّل سياسيّ جذري يؤسس دولة القانون والمواطنة، في إطار نضال سلميّ تميّز بقوة تنظيمه ومدنيته وشموليته للوطن وجماهيره الصاخبة التي قدرت بالملايين. ومن المكاسب الكبرى التي حققها الحراك خارج الوطن، تغيير الصورة السوداوية التي رسمها العالم للمواطن الجزائري، بصورة براقة رفعت من قيمة جواز السفر الجزائري.

من الطبيعي أن يسعى الجزائريون المشاركون في مسيرات الحراك الشعبي عبر الوطن، إلى بناء جسور التواصل بين حاضرنا وماضينا من أجل بصم الجمهورية الجديدة المنتظرة ببصمة الأصالة، عن طريق إضفاء القيم الفكرية الجزائرية على الآليات الديمقراطية كخيار إجرائيّ لتسيير السيادة الشعبية تسييرا عقلانيا، وهذا بسبب التوجس من مصطلح الديمقراطية الذي قد يحمل شحنة إيديولوجية غريبة عن مجتمعنا. وفي غمرة هاجس الأصالة ظهرت تيارات سياسية متنوعة، فمنها من رفع الراية الأمازيغية في إشارة إلى المكوّن الأمازيغي في هويتنا الجزائرية، ومنها من رفع شعارا سياسيا يجمع بين الفكر الباديسيّ ومبادئ ثورة أوّل نوفمبر، وأثار ذلك جدالا لدى الرأي العام، وبدا كأن الوضع يسير في اتجاه صراع إيديولوجيّ بدأت ملامحه تطل برأسها في فضاء المسيرات الشعبية. فهل هناك فعلا ما يدعو إلى القلق جراء التعبير عن الأطياف الإيديولوجية المختلفة في المسيرات؟

لقد غاب عن الكثير من المواطنين بمختلف فئاتهم الاجتماعية الذين يعانون من التصحّر السياسيّ، أن أم المشاكل تكمن في داء الاستبداد السياسيّ الذي يحول دون إسناد تسيير شؤون الدولة لإرادة الشعب، وليس الداء – كما يعتقد البعض- في الصراع الإيديولوجي بين الإسلامي والعلماني واليساري والليبرالي، بل إن تأجيج هذا الصراع قبل النجاح في تأسيس دولة القانون، سيطيل عمر الاستبداد المنجب للفساد ونهب وتبديد المال العمومي وإقصاء الشباب. لذلك صار لزاما على هذه الأطياف السياسية المختلفة أن توحّد جهودها مثلما فعل الجزائريون غداة اندلاع ثورة أوّل نوفمبر 1954، حين انضموا تحت لواء جبهة واحدة لتحرير الوطن من ربق الاستعمار، من أجل الانتقال إلى دولة مدنية بمعاييرها النوفمبرية. وبالنظر إلى اتساع مساحة الجزائر وإلى عمقها التاريخي الضارب في أعماق الماضي السحيق، فمن الطبيعيّ أن تتنوع الثقافة وأن تتنوّع مكوّنات الشخصية الوطنية والأطياف السياسية. لذلك فإن الحل ليس في إقصاء هذا المكوّن أو ذاك، وإنما الحل في بناء الوحدة في إطار التنوع الثقافي والسياسيّ. وعندما نعي هذا الأمر جيّدا ستزول المقاربة التي تطرح العلاقة بين الأمازيغية والعربية في إطار تنافريّ، وسنتجاوز الصراع الإيديولوجي بين الأحزاب، ومن ثم تسير السياسة في الاتجاه الصحيح المتمثل في الاحتكام إلى الشعب عبر انتخابات حقيقية لا يمكن الوصول إليها إلاّ بتغيير المنظومة السياسية الحالية تغييرا جذريا.

ولعل من نافلة القول التذكير بأن ما تطمح إليه ثورة شباب 22 فيفري في الجزائر، هو بناء دولة حديثة تساير عصرها، وتأخذ بميكانيزمات الديمقراطية والعصرنة، دون أن تقطع الحبل السري مع ماضيها العريق الضارب بجذوره في تاريخ شمال إفريقية، ودون أن تتنكر لانتمائها إلى وعاء الحضارة العربية الإسلامية الغنية بالأمجاد والمآثر. لكن يجب أخذ الحيطة والحذر حتى لا يتحوّل ماضينا إلى سياج دوغماتيّ يسجن عقولنا في الماضي ويجعلها مستقيلة عن التفكير فتنشغل بتكفير كلّ من يشرئب بعنقه إلى المعاصرة، ويجب التحلي باليقظة حتى ماضينا عقبة أمام الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة ودون رؤية الواقع المعيش رؤية شاملة تأخذ المستجدات العالمية بعين الاعتبار على أساس القاعدة الفقهية المعروفة: “لا ينكر تغير الأحكام بتغيّر الأزمان”، وكذا على أساس أخذ الحكمة أينما وجدها الإنسان بصرف النظر عن صاحبها شرقيا كان أو غربيا دينيا كان أو غير دينيّ، فالعبرة في الفكرة وليس فيمن قال الفكرة كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم وجهه.

إن ما تحتاجه ثورة الحراك الشعبي، هو “العقول المستجيبة” لا المستقيلة، تغربل التراث والحلول المستوردة على حدّ سواء، قصد استنبات تجربة سياسية جزائرية تراعي التنوع الثقافي الذي تزخر به بلادنا الواسعة، على غرار ما فعله محمد مهاتير المسلم في ماليزيا الذي نجح في صناعة التعايش بين الديانات والثقافات والأعراق المتعددة، فانطلق بوطنه نحو التقدم والرقيّ بطريقة أثارت إعجاب العالم وأخرجت بلده من أتون التخلف والصراعات العرقية والدينية. وعليه فإن واجب النخب اليوم، هو تخليص تراثنا المتنوّع من القراءات الإيديولوجية الضيقة والمتطرفة التي تدفع بالوطن في اتجاه المجابهة، وإحلال محلها قراءة تكاملية لثقافاتنا المتنوعة تجعلنا نبني “وحدة وطنية في إطار التنوع” التي يريدها شباب الحراك: “الشاوي، العربي، لقبايلي، لمزابي خاوه خاوه”.

بالنسبة للشعار المرفوع في مسيرات الحراك الشعبيّ: “باديسية- نوفمبرية” فهو يحتمل أكثر من قراءة، فإذا كان المقصود به هو الإشارة إلى كون المقاومة الفكرية التي قادها عبد الحميد بن باديس ورفاقه، هي بمثابة حجر الأساس للمقاومة السياسية بقيادة الحركة الوطنية فذاك عين الصواب، لأن المقاومتين وجهان لنضال واحد غايته استرجاع السيادة المغتصبة. أما إذا كان القصد من هذا الشعار هو إقصاء الثقافة الأمازيغية والتيار الديمقراطي من المشهد السياسيّ، فهو خطر على الأمة الجزائرية، لأنها قراءة ضيقة لتاريخنا وغير صحيحة من شأنها أن تعمل على تشويه ابن باديس المعروف بخطابه الجامع للأمة، إذ كان يتعاون مع جميع التيارات السياسية التي كانت موجودة في زمانه كالشيوعيين ودعاة الإدماج وغيرهم، أما الأمازيغية فقد أعلن صراحة أصوله الأمازيغية حين وقّع مقاله الشهير سنة 1936م الموسوم “ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان” باسم عبد الحميد بن باديس الصنهاجي، ولم ير غضاضة – وهو المدافع الشرس عن العربية- في الجمع بين التراثين لأن تاريخنا العريق قد وَسِعَهما. ولا يخفى على العارفين أن شعار جمعية العلماء: “الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا” كان موجّها ضد الاستعمار الفرنسي، وليس ضد الأمازيغية كما يعتقد البعض. ولعل ما يؤكد ذلك ورود صورة رمزية التاريخ الأمازيغي في أدبيات الحركة الإصلاحية، بأقلام روادها كالشيخ مبارك الميلي في كتابه الشهير”تاريخ الجزائر في القديم والحديث”، والأستاذ أحمد توفيق المدني، والشيخ أحمد سحنون في قصيدة “العامل الجزائري”، والأستاذ محمد صالح رمضان وغيرهم.

واعتبارا لما ذكر من المعطيات، أدعو إلى الابتعاد عن ليّ عنق التاريخ من أجل غرض إيديولوجي ضيق، وإلى تفادي التعامل مع أحداث ثورة نوفمبر بالانتقائية قصد الإساءة إلى جهة معينة من الوطن، وإلى إقصاء أهلها، فجميع محطات الثورة متساوية في الأهمية (بيان أول نوفمبر، مؤتمر الصومام، مفاوضات إيفيان). ومن واجبنا أن نحصّن الناشئة بالتربية الوطنية الصحيحة عن طريق الاعتزاز برموز تاريخنا دون إقصاء هذا أو ذاك لاعتبارات عرقية أو جهوية، فمرحبا بيوغرطة ومرحبا بعقبة بن نافع، ومرحبا بابن باديس ومرحبا بأمجاد المقاومة الشعبية، والحركة الوطنية والثورة التحريرية، وتحية لشباب الحراك بناة المستقبل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!