الرأي

رأي في تردي الأخلاق العلمية

تتكاثر في الجزائر، وفي عديد البلدان الأخرى، حالات السرقات العلمية والسلوكات غير الأخلاقية للباحثين والأساتذة الجامعيين وطلبتهم. وقد تزايد هذا النوع من السرقات في إعداد الأطروحات، وسهل ذلك ما توفّره الأدوات التكنولوجية في مجال البحث والاتصال عبر الشبكة العنكبوتية. والأغرب أن الكثير من الطلبة يعتبرون أن البحث العلمي ليس سوى البحث في الإنترنت وغيرها عما هو موجود، ثم سرده حرفيا في صفحات الرسائل الجامعية دون إبداع ولا تجديد!

وقد بلغ الأمر مبلغًا من الصعب التحكم فيه دون تطبيق قوانين صارمة وعقوبات زجرية لردع كل من يُقْدم على مثل هذه الأعمال النكراء كالتوبيخ والتشهير والطرد من الوظيفة وسحب الشهادات كما تفعل الآن بعض البلدان. والمؤسف اليوم أن نرى لدى مسؤولينا تهربا وتقاعسا عندما يتعلق الأمر بمواجهة هذا الداء.

 

النابغة المتعفف غروتنديك

يتصور البعض أن هذه الآفة لم تكن موجودة في السابق، والحقيقة أن الأدوات التي كانت متاحة لم تكن تلبي كل الرغبات وكانت النزاهة غالبة إلى حد معين عند العلماء، لكن ذلك لم يكن بالقدر الذي نعتقده. وحتى يتضح هذا الجانب ارتأينا تقديم ترجمة للرسالة التي وجهها عام 1988 الرياضياتي المتعفّف والمتمرّد ألكسندر غروتنديك Grothendieck (1928-2014) إلى الأمين العام لأكاديمية العلوم السويدية عندما أعلمه بأن الأكاديمية منحته جائزة  كرافورد Crafoord الشهيرة، والتي تُقدر قيمتها بـ 300 ألف دولار. 

سيجد القارئ في النقطة الثالثة من هذه الرسالة كيف يصف غروتنديك تردي الأخلاق العلمية وانتشار السرقات قبل نصف قرن، محذرا من الوضع المتزايد الخطورة في هذا المجال.

وعالم الرياضيات غروتنديك من أصل روسي، ولد في برلين، وأبوه كان رفيق لينين خلال الثورة الشيوعية عام 1917. وعندما أصبح الوالد من المغضوب عليهم في موسكو فرّ بجلده إلى ألمانيا ولاحقه الموت حيث قُتل خلال الحرب العالمية الثانية. فهربت والدة ألكسندر من ويلات الحرب إلى جنوب فرنسا. وهناك صار هذا الأخير من كبار علماء الرياضيات في هذا العصر بعد أن تتلمذ على أكبر علماء الرياضيات، وعلى رأسهم جون ديودونيه Dieudonné (1906-1992) ولورنت شوارتز Schwartz (1915-2002). وبفضل ذلك فاز بميدالية فيلدز عام 1966 غير أنه رفض استلامها!  

توظّف غروتنديك في معهد الدراسات العليا العلمية  IHES بباريس، وهو مؤسسة بحث أكاديمي لا توظف إلا اثنين أو ثلاثة من النوابغ. وظل في هذا المعهد حتى اكتشف عام 1970 بأن تلك المؤسسة تتلقى تمويلا من وزارة الدفاع فاستقال منها. وصار منذ ذلك الحين يدعو الباحثين في الرياضيات عبر العالم إلى التوقف عن البحث العلمي طالما أن نتائجهم يستفيد منها العسكر!

ولا يسمح المقام هنا بسرد سيرة هذا العالم الفذ، إذ ما يهمّنا هو فحوى رسالته المشار إليها أعلاه. 

 

رسالته إلى الأكاديمية السويدية

هذه مقاطع من نص الرسالة:

“عزيزي الأستاذ تورد غنليوس Ganelius

أشكركم على رسالتكم المؤرخة في 13 أبريل 1988 التي استلمتها اليوم، كما أشكركم على برقيتكم. إني لأشعر بالتقدير الذي شرفتني به أكاديمية العلوم السويدية عندما قرّرت منحي جائزة كرافورد لهذه السنة -مقرونة بمبلغ مالي معتبر- بمعية بيير ديلينيه Deligne (الذي كان أحد تلاميذي). إلا أني آسف لإشعاركم بأنني لا أودّ استلام هذه الجائزة (ولا أي جائزة أخرى) وذلك للأسباب  التالية:

1. إن راتبي الشهري الحالي كأستاذ، وكذا مرتب التقاعد- الذي سأتقاضاه ابتداء من شهر أكتوبر القادم – يغطي أزيد من حاجياتي المادية وحاجيات من هم تحت كفالتي. وبالتالي فأنا لست بحاجة إلى مال. أما فيما يخص الامتياز الذي منح لبعض أعمالي الأساسية فإني متيقن بأن المحكّ الحاسم الوحيد لخصوبة الأفكار أو لرؤية جديدة هو الزمن. ويتعرّف الإنسان على الخصوبة من خلال الذرّية التي تنجبها وليس بالتشريفات.

2. ومن جهة أخرى، فإني ألاحظ بأن الباحثين من الدرجة الأولى الذين تتوجه إليهم جائزة كبيرة – كجائزة كرافورد- يتمتعون جميعا بمكانة اجتماعية مرموقة توفّر لهم رخاء العيش والشهرة العلمية، إضافة إلى السلطات والصلاحيات التي تمنحها إياهم هذه المكانة. أليس من الواضح أن الوفرة المفرطة لدى البعض لا يمكن أن تتحقق إلا على حساب ضروريات ومستلزمات البعض الآخر.

3. إن الأعمال التي جعلتني موضع الاهتمام الكريم للأكاديمية السويدية يرجع تاريخ إنجازها إلى 25 سنة خلت، إلى عهد كنت أنتمي فيه إلى الوسط العلمي وأشاطره فكره وقيمه. لقد انفصلت عن هذا الوسط سنة 1970، من دون أن أتخلى عن هوايتي في البحث العلمي، بل ابتعدت داخليا عن وسط العلميين شيئا فشيئا. والذي حدث خلال العشرين سنة الماضية هو تردي أخلاق المهنة العلمية (بين علماء الرياضيات على الأقل) إلى درجة أن السرقات المكشوفة بين الزملاء (سيما السرقات التي يكون ضحيتها أولئك الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم) أصبحت شبه قاعدة عامة يجيزها الجميع، حتى في أفضح الحالات وأكثرها تعسفًا. 

إن قبول دخولي في لعبة “الجوائز” و”المكافآت” يعتبر في هذه الظروف اعترافا ودعما لهذا الفكر ولهذا التطوّر في الوسط العلمي. إني أعتبر هذا الفكر وهذا التطوّر جدّ مُضرّيْن ومآلهما الزوال في أجل قصير ذلك أنهما قاتلان روحيا وفكريا وماديا.

إن السبب الأخير يمثل بالنسبة لي أهم الأسباب الثلاثة التي ذكرتها. وإن كنت تعرضت إليه فليس أبدا بغرض انتقاد نوايا الأكاديمية الملكية في إدارة الأموال الموضوعة تحت تصرفها. إنني لا أشك في حدوث تقلبات كبيرة غير متوقعة ستحوّل رأسا على عقب – قبل نهاية هذا القرن – مفهومنا للعلم وكذا أهدافه الكبرى والذهنية التي يتم بها العمل العلمي. وإننا كلنا على يقين من أن الأكاديمية الملكية ستكون آنذاك من بين المؤسسات والأشخاص الذين ينبغي عليهم تأدية دور مفيد من أجل إحداث تجديد لم يسبق له مثيل، بعد انتهاء حضارة لم يسبق له مثيل أيضا …

وإني متأسف على الضيق الذي يمكن أن يتسبّبه، لكم وللأكاديمية الملكية، رفضي لجائزة كرافورد في الوقت الذي يبدو أن بعض الإشهار قد انطلق بخصوص منح هذه الجائزة دون التأكد مسبقا من موافقة الفائزين المعنيين. لقد حدث هذا على الرغم من أني اجتهدت في سبيل التعريف داخل الوسط العلمي -سيما بين قدماء أصدقائي وتلاميذي في عالَم الرياضيات – بمواقفي إزاء “العلم الرسمي” اليوم… 

أشكر حسن انتباهكم وأجدد لكم ولأكاديمية العلوم السويدية تشكراتي واعتذاراتي لهذا الطارئ الخارج عن إرادتي. تقبلوا عبارات التقدير”.

ذلك هو رأي ألكسندر غروتنديك الذي كما نرى لم يخطئ في توقعاته. وقد عاش بقية حياته زاهدا في الدنيا يبحث في العلم ويتأمل في الإنسان وسلوكاته حتى وافته المنية دون أن ينشر أي عمل. ولا شك أن البحث في مخطوطاته الجاري الآن سيكشف عن المزيد من نظرياته في الرياضيات وعن رؤاه وتنبؤاته في غيرها.

مقالات ذات صلة