-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الجزء الثاني

راهن الأمة والدعوة في فكر الشيخ محمد الغزالي

راهن الأمة والدعوة في فكر الشيخ محمد الغزالي

جادلني أحد المتدينين في راهن الأمة الإسلامية وما يميزه من هوان على كل المستويات فقال لي إن عقيدتنا الإسلامية عقيدة قدَرية، فقلت هذا صحيح، فقال ومن مقتضيات الإيمان بهذه العقيدة أن نؤمن أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، فقلت هذا صحيح كذلك، فقال ومن مقتضيات الإيمان بهذه العقيدة أن نؤمن بأن أما صاب الأمة الإسلامية في هذا العصر هو قدر كذلك، فقلت له يجب أن تصحح مفهومك حول القضاء والقدر؛ فالقضاء والقدر في الإسلام لا ينفصل عن أحكام السببية فهناك علاقة سببية بين القدر الإلهي والفعل الإنساني وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: “حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبوا جاءهم نصرُنا”، وما نفهمه من قوله تعالى: “إن تنصروا الله ينصركم” وقوله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”.

مما استلهمته من قراءتي لكتب أستاذي محمد الغزالي رحمه الله أن الفهم السقيم للسنن الإلهية هو الذي ضاعف من حالة الهوان الذي تعانيه الأمة الإسلامية، ومن مظاهر هذا الفهم السقيم أن يدّعي بعضهم أن الأمة الإسلامية موعودة بالنصر ولا توقف الأسباب ما قدرته إرادة رب الأرباب، كلمة حق أريد بها باطل تنمّ عن جهل بنصوص القرآن والسنة وجهل بتاريخ السيرة، فالعلم بالقرآن والسنة يقتضي العلم بالسنن التي تحكم الحياة والجهل بها جهل بالقرآن والسنة وإن ادعى بعضهم إحاطة بنصوص الكتاب والسنة.

ليس هناك في اعتقادي من المفكرين والدعاة المعاصرين من اهتم بحال الأمة الإسلامية في حاضرها واستشرف مستقبلها مثل الشيخ محمد الغزالي، فكل كتبه التي كتبها تعالج أدواء هذه الأمة وتصف لها الدواء الناجع الذي يخرجها من دائرة التخلف ويُلحقها بركب الحضارة، فعناوين كتبه تلمس فيها مسحة حزينة على حال الأمة الإسلامية من “علل وأدوية” إلى ” موم داعية” إلى “الحق المرّ” إلى “الطريق من هنا” إلى “سرُّ تأخر العرب والمسلمين”.

يتميز فكر الغزالي بعاطفة جياشة نحو الإسلام، ولكنها ليست من قبيل العاطفة المصطنعة التي يبديها بعضهم تجاه الإسلام ولكنهم لا يكترثون للهجمات البغيضة التي تستهدفه من الشرق والغرب بل ربما انحازوا في عز الصراع إلى خصمهم بدعوى “التسامح” الكاذب.

لقد استشرف الشيخ الغزالي مستقبل الأمة الإسلامية وحذر من أنها تستقبل قرن الأزمات التي تطوّقها من كل جانب، أزمة دعوية يتسبب فيها أصحاب التدين المغشوش الذين يعرضون الإسلام عرضا سيئا ولا يتورعون في معاداة من خالفهم ولو كان على الحق وموالاة من وافقهم ولو كان على الباطل، وأزمة قيمية تكاد تعصف بالقيم الإسلامية التي توارثتها الأمة وأزمة سياسية تعصف بما تبقى من شعرة معاوية بين الحاكم والمحكوم، وأزمة فكرية يتحول فيها صاحب الفكر الخلاق إلى مختلِق ويصير فيها الاحتكام إلى العقل جريمة والاستدراك على بعض المشايخ جريرة، وأزمة اقتصادية تشحّ فيها الموارد وتتحول فيها الأمة الإسلامية إلى متسوّل يتكفف الشرق والغرب ويعيش على فتات الموائد.

للشيخ محمد الغزالي رحمه الله كتاب بعنوان “مائة سؤال عن الإسلام” يحمل إجابات مستفيضة لكل ما يتعلق بالإسلام وخاصة ما يتعلق بمستقبله القريب أو البعيد الذي هو نتاج حاضره، يقول الغزالي: “حاضر المسلمين يقبض الصدر، وقد يبعث على التشاؤم، ولكنني واثق من أن هذه المحنة ستنجلي كما انجلت محن أخرى في أيام مضت، على أن انجلاء المحن لا يشبه انقشاع السحب، نرقبه ونحن مكتوفو الأيدي، كلا، لا بد من عمل جاد وسعي لاغب، أو كما قلت لا بد أن يعتنق المسلمون الإسلام يقينا وخُلقا ونشاطا وفكرا”.

إن النتائج تبنى على المقدمات -كما يقول المناطقة- وتصلح هذه القاعدة المنطقية للتطبيق على حال الأمة الإسلامية، فالأمة التي لم تصنع في حاضرها خيرا، من العبث أن تنتظر خيرا أو يؤمل منها خيرٌ كما قال الغزالي: “أما مع النقائص الموجودة فيستحيل أن يكسب المسلمون خيرا”. إن النقائص التي تحدث عنها الغزالي ليست هي الهنات والعثرات والسقطات، فهذه العوارض تتعرض لها كل أمة، وإنما هي النقائص التي تشلُّ الطاقات الحية في الأمة وتعيقها عن الحركة.

يؤكد الشيخ الغزالي أنه لا أمل في مستقبل واعد للأمة الإسلامية إلا إذا عالجت هذه الأمة أعطابها النفسية والعقلية وأدركت حقيقة وقيمة الرسالة التي تحملها، يقول في هذا الصدد: “إن أعطابا نفسية وعقلية أصابت كيانهم بشلل لا تعرفه أمم أخرى وألحقت برسالتهم مهانة كبيرة. علماء الصين درسوا طبيعة أرضنا في البحر المتوسط، إنني لم أدهش للخبر لأنني لما ذهبت إلى نواكشوط عاصمة موريتانيا عرفت أن المياه التي تغذي العاصمة تأتي من آبار جوفية اكتشفها الصينيون، وقاموا بمد أنابيبها إلينا، لقد عرفوا وهم على المحيط الهادي خيرات أرضنا على المحيط الأطلسي، قلت في نفسي إنني أعرض الدعوة الإسلامية كلاما وهؤلاء الصينيون يعرضون الدعوة الشيوعية عملا وخامرني حزنٌ عميق”.

كلامٌ كهذا من عالم جهبذ مثل محمد ناصر الدين الألباني في حق الشيخ محمد الغزالي جريرة كبرى وزلّة عظمى، وتكفي إطلالة على كتابَيْ الغزالي “فقه السيرة” و”السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث” ليكتشف القارئ بطلان التهم التي كالها الألباني للغزالي؛ فقد عاش الرجل مدافعا عن السنة الصحيحة محارِبا لأدعياء السنة، وشتان بين السنة الصحيحة و”السنة المختطَفة”.

لا يبدي الغزالي كثيرا من التفاؤل بشأن مستقبل الأمة الإسلامية لأن الوهن الذي أصابها أكبر من أن يُتصوَّر أو يُستدرك سريعا إلا إذا أعادت هذه الأمة للعقل سلطانه وعقلت ما في كتابها وفقهت رسالتها التي وُجدت من أجلها، يقول الغزالي: “.. ويظهر أن هناك نوعين من الشلل الجزئي يقطع دورة الإحساس في الكيان الإسلامي العامّ، ويقعد الأمة عن أداء رسالتها الكبرى.. ذلك لو بقي لدينا شعورٌ بأننا نحمل للعالم رسالة كبرى. إن الوهن الذي حل بالمسلمين دوّخهم، وجعل أبصارهم عند مواطئ أقدامهم، ولكي نطمع في استماع الناس إلينا يجب أن نقول ما يُعقل أو نعقل ما قيل لنا في كتابنا ونكون نموذجا حسنا له”.

يُستشفّ من كلام الشيخ محمد الغزالي أنه إذا استمرت الأمة الإسلامية في معاداة العقل فإنه لا أمل في شفائها مستقبلا من أدوائها؛ فالعقل أداة من أدوات التفكير وليس أداة من أدوات التكفير كما يروِّج لذلك بعض أدعياء السُّنَّة الذين يقولون إن “العقل مفسدة كبرى وأفسد منه تقديمه على النقل”، وهذا كلامٌ لا يستقيم ولا يؤيد دليلٌ من الكتاب والسنة.

من مظاهر البؤس الذي أصاب الأمة الإسلامية ظهور طائفة من النصوصيين والنقليين الذين ينسبون كل متحمِّس للعقل إلى المعتزلة، وكأن المعتزلة فرقة ضالة مُضِلة تحتكم إلى أهوائها في تعليل الأحكام الشرعية. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله مكانة كبيرة في نفسي وفي نفوس كل المسلمين، فجهوده في خدمة السنة النبوية لا ينكرها إلا مكابر، ولكنني أعتب عليه اتهامه للشيخ محمد الغزالي بأنه “منحرف عن السنة” فحينما سُئل عن موقفه من الغزالي قال: “أنا أعرف الغزالي قبل أن يثور الثوارُ عليه، وأنه كان منحرفا عن السنة من يوم كتب مقدمة الطبعة الرابعة لكتابه “فقه السيرة”، وذكر هناك منهجه في الاعتماد على أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام سواء ما كان منها متعلقا بالسيرة أو بغيرها، فهو ينهج في ذلك منهج أسلافه المعتزلة، فهو لا يقيم وزنا لجهود أئمة الحديث مطلقا وهو “بشطبة قلم” يضرب على حديث متفق على صحَّته، وبصيحةٍ من حنجرته يصحِّح حديثا لا يصحُّ عند علماء الحديث، ويعجبني ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: إذا حاججكم أهلُ الأهواء بالقرآن فحاججوهم بالسنة فإن السنة تقضي على القرآن أو تبيِّنه”.

كلامٌ كهذا من عالم جهبذ مثل محمد ناصر الدين الألباني في حق الشيخ محمد الغزالي جريرة كبرى وزلّة عظمى، وتكفي إطلالة على كتابَيْ الغزالي “فقه السيرة” و”السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث” ليكتشف القارئ بطلان التهم التي كالها الألباني للغزالي؛ فقد عاش الرجل مدافعا عن السنة الصحيحة محارِبا لأدعياء السنة، وشتان بين السنة الصحيحة و”السنة المختطَفة”.

يرى الشيخ محمد الغزالي رحمه الله أنه لا مستقبل للأمة الإسلامية إلا إذا جمعت هذه الأخيرة بين فضيلة الإيمان بالإسلام والعمل به في آن واحد، إذ لا قيمة لإيمان لا ينبثق عنه عمل، يقول الغزالي: “يجب أن تقوم للإسلام أمة تعمل به، وتعطي صورة صادقة له.. وأرى أن الصحوة الإسلامية مكلفة بتكوين هذه الأمة الجديدة وإنصاف رسالة الإسلام من هذا البلاء. ومع تمام هذا التكوين نعرض أنفسنا على ساكني قارات المعمورة، واعتقادي أن النجاح سيكون حليفنا”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!