ربيع الحقول… وشتاء العقول
ليس أنكى ولا أبكى من صدّ النّهر العذب عن مجراه، أو تحويل الرّبيع عن طبيعته ومبتغاه. وعلى سبيل المثال، فإنّ وطننا الجزائر قد حباه الله من الحقول والفحول، والعقول، ما تَعجَز بقيّة البلدان عن إنجابه؛ خصوبة في متيجة والسّاحل الجزائري من وهران إلى عنابة، وعذوبة في المياه من سعيدة إلى باتنة، مرورًا بسيدي الكبير، ومسرغين، ولكن يدُ الإنسان سطَت على الخصوبة والعذوبة فحولتها إلى قحولة، وملوحة ورطوبة، فهل هناك أبكى ممن يَعمد إلى الحقول فيخفّف خصوبتها، وإلى الأنهار فيلوِّث عذوبتها، وإلى الفحولة فيُعطِل رجولتها؟.
ما يحدثُ في بلدي الجزائر، يحدث أكبر منه، وعلى نحوٍ أخطرَ في وطني العربي الجريح، فهذا الوطن الكبير آتاهُ الله هو الآخر من النِّعم فوق الأرض وتحتها، ما تفتقِر البِلاد الأخرى إلى أقلَّ القليل منه، ولكنَّ الإنسان العربي كَفرَ بنعمة الله فأذاقه الله لباسَ الجوع والخوفِ، وكشفَ عنه سِترَ الأمنِ والأمان، والإيمان، فهو تائِهٌ في كلّ البُلدانِ، يطلبُ حقَّ اللّجوءِ فلا يجده، ويبحث عن حقّ الإقامةِ فيُرفَضه.
يالله! كلّ شيءٍ تقزَّم وتشرذمَ في وطني العربي، فلا الرّبيع ربيع في حقلِه ومبتغاه، ولا الرّضيعُ رضيعٌ في مولده ومبكاه. فالذي كان عزيزًا تذلّل، والذي كان كبيرًا قد تطفَّل، والذي كان كثيرًا قد تقلّل، فويلٌ للوطنِ العربي من حربِ الشماريخ، وويل للمواطن العربي، والحاكِم العربي من حكم التاريخ!.
شُغِلنا بالرّبيع العربي، هذا المقصد المظلوم في معناه، وهذا المفهوم السياسي التائه عن مبتغاه، قالوا لنا بأنّه ثورة على الظُلمِ والاستبداد، وقفزة باسم الخصوبة لإسعادِ العبادِ والبلاد، ولكنّ الواقع المرّ، ومجموعاتِ الشّر جاءتنا على العكس من ذلك، بكلّ ألوان الضّر، ففي كلّ جزء من أجزاء وطننا العربي حروب شيطانية، وقِتالٌ على الهويّة، وباسم الطائفية والمذهبية، فيا للرزيّة!.
من يَقتُل منْ في اليمن؟ وأينَ حقول الرَّبيع في الشّام بالعراق وسوريا… فَعَلاَمَ يتقاتلون؟ وعمَّ يتساءلون؟ وعن أيِّ مكسبٍ هم يبحثون؟ لقد خُربَّت حلبٌ والبَصرة على أيدي أعداءِ العرب وجيشِ النُّصرَة، فيا للحسرة!.
وما هذه الحربُ الدائرة في ليبيا بين فجرها وعصرها، وشرقها وغربها؟ منْ هوَ الشّهيد فيها، ومنْ هوَ الخائن؟ من هو الشّرعي في ليبيا ومنْ هوَ الدَّعِي؟ أليسَ في ليبيا عُلماء يَعقِلون؟ أليسَ في ليبيا ثوريون وطنيون؟ فما لهؤلاءِ العقلاءِ الثوريين الوطنيين المؤمنين، ما لهم لا يَنطِقون؟ وإنْ نطقوا ما لهم لا يَفعلون؟.
إنّنا نَبرأ _حقًا– إلى الله مما يفعل أبناءُ اليمن باليمن! فقد جاروا عليه تحتَ وطأةِ الزَّمن، فأبدلوه “صابًا بمنْ” وإنّنا نشكو إلى الله ما يفعله أبناءُ سوريا بسوريا! من هدمٍ وردم، وتخريبٍ وتهريب، وتسريب، إنّه والله لأمرٌ مريب! لم يعد لسوريا شقيق أو قريب أو حبيب، فالكلّ في سلوك غريب… والوطن يُخَرِّبُ على أبنائه، ولا من ناصر أو مجيب. لقد حار في هذا الأمرِ العالِم، والعامل، والأريب والأديب… فمتى تلوح بشائر الفرجِ القريب؟.
وإنّنا نرفع أكُّف الضراعة إلى الله بأن يُنقذ ليبيا من أبنائها الأدعياء، وأعدائها الأشقياء، وجيرانها الماكرين الدّخلاء، الذين يمدّون فُرقَاءَها بالمال أو بالسِّلاح، ويزّجون بالفرقاءِ فيها إلى مزيد من الصِدامِ والنّطاح. ألا سحقًا لكلِّ مستبّدٍ سفّاح، يُفسد على الليبيين كلّ مصالحة وكلّ إصلاح… وإنّه _والله– للجُرم السياسي، وإنّه للسِّفاح. فهل يصحُو أبناءُ ليبيا في الجزائر على أذان الصباح؟.
فيا أشقاءَنا، بالرّغمِ منكم ومنَّا!
لقد شوّهتم كلّ شيء في وطننا العربي الكبير، وكنتم مطايا للتدخُل الأجنبي الخطير، ومكنتموه من التحكّم في رقابكم، وفي سوء التسيير والمصير، أمَا كفاكُم هذا التشرذّم الذي يعانيه مواطنوكم؟ وهذه “الحرڤة” والمغامرة التي يُقدِم عليها حرائركم وأبناؤكم؟ ألم تَبقَ فيكم بقية من كرامة ونخوة؟ أليس فيكم عرقٌ ينبض ببقايا العروبة والجذوة؟.
إنّنا نخاف أن نستيقظ ذات يوم، فلا نجد لنا فضاء اسمه “الوطن العربي” وإنّما سوف نصحوا على {الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}الفجر9-14.
إنّ إنقاذ “الوطن العربي” ليس مسؤولية الحُكام، والجنود، والعلماء والحكماء وحدهم، بل إنّه مسؤولية جميع فئات الشَعب، ويبدأ الإنقاذ من الطبقة المسحوقة، من سائق “التاكسي” إلى التاجرِ والعامل، والموظَّف، فكلّ في ميدانه مدعُو إلى حماية الوطن، وإعطاءِ الوجه اللائق عنه بالسّلوكِ الحضاري السّليم، والوجه الطَّلقِ الكريم، وأداءِ الواجب العظيم، وتقديم المثال الوطني الحكيم.
لقد صُمَّت آذاننا من هولِ ما نَسمع، وبُحَّت أصواتنا من نداءات لا تُسمَع لقلوبٍ لا تلينُ ولا تخشع.
إنّه ليَحِزُّ في قلوبِنا أن نَنعى _في ضوء الواقع المرّ– وفاةَ وطننا العربي الكبير، وقد كان إلى عهد قريب مضرِب المثل في الصّمودِ والتصّدي، والاتحادِ والتحدّي، فماذا دهاه؟ وأين دُهاتُه وعُظماؤُه؟ وكانوا رهبانًا بالليل وفرسانًا بالنّهار؟ لقد تشرذم كلّ شيء في وطننا العربي، فتحوّل الدهاة إلى طُغاة، والعظماءُ إلى سفهاء.
تغيّر المسجد المحرون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذان
لقد كانت القاهرة، هي عاصمة الوطني العربي في الوعي بالوِحدة، والفزع عند الشدّة، تحمل الأعباءَ عنَّا أطوَل مدّة، فأين هي مصر العروبة مما يحدثُ اليوم في وطنِ العروبة؟.
تاالله ليعزُّ علينا أن نعترِف بأنّ مصر الكنانة مشغولةٌ عن وطننا بالاعتقالات، والمحاكمات، وتصفية الحسابات، وإحداث الزعامات.
فرحماكِ يا مصر الكنانة!
عودي إلى وطنك العربي الغريق، مُدِي له يَدكِ، وأنقذيه من بحرِه السحيق.
تصالحي _يا مِصر– مع ذاتك وأبنائِكِ فالصُّلحُ خير، ودَعِي الفتنة الطائفية فإنّها نتنة.
وتغنّي يا مصر برائعة المبدِع المرحوم أحمد فؤاد نجم في وصيته لك:
مصرُ يا مّه يا بهيّة، يا أمّ طرحة وجلابية،
الزّمن شاب. وأنتي شابّة. هو رايح
وأنت جاية. جاية فوق الصّعب ماشية
فات عليكي ليل وميّة. واحتمالك هوَ هوَ
وابتسامتك هيَ هيَ، تضحكي للصبح يصبح
بعد ليلة ومغربية. تطلع الشمس تلاقيكي
معجبانية وصبية. يا بهيّة
هكذا ننتصر أو ننكسر من أجل الرّبيع العربي مع الاعتذار للرئيس الدكتور منصف المرزوقي كي نتجاوز هزيمتنا القديمة في 5 يونيو، وهزيمتنا الجديدة على وقع الرّبيع العربي.