الرأي

ربيع الدم- القراطية!

محمد بوالروايح
  • 2908
  • 9

مهما تكن مساوئ الديمقراطية ومخالفتها للإيديولوجيا الدينية في نظر البعض، إلا أنها من حيث المعطى العام طريقة تكرس حكم الشعب وترفض منطق الاستعلاء الذي يمنح للأقلية الحاكمة حقّ التحكم في الأغلبية المحكومة، أو يمنحها حقا أكثر وأخطر من هذا، وهو حق التحكم في الأعناق والأرزاق ومعاملة الشعب على أنه قطيعٌ تابع لا يملك أمر نفسه ويحتاج إلى وصاية غيره.

إن الذين اعترضوا على الديمقراطية حكموا عليها من البداية على أنها أنموذجٌ غربي علماني جملة وتفصيلا من غير أن يراعوا بعض إيجابياتها إلا بعد أن ابتلي العالم في زمن ما يسمى الربيع العربي أو قبله بسنوات قليلة بجماعات دموية، لا تؤمن بقوانين الأرض ولا تراعي قدسية لحاكم ومحكوم، بل تصنف الكل في خانة الشرّ المستطير الذي لا أمل -حسب زعمها- في إصلاحه أو التصالح معه.

وسرت هذه الصورة الدموية في المجتمعات، ورسمت مناظرُ الأشلاء والدماء ملامح عالم عربي حزين يراوده الحنين إلى الماضي بعد أن آمن بأن بعض الشرّ أهون من بعض، وطفق حكماء الدين وعقلاء السياسة يبحثون عمن يتصدى لهذا البؤس الذي جلبه الربيع الموهوم للمجتمع المكلوم، ومن يبدد ثقافة اليأس التي امتدت في أوصال المجتمع فمزقته شرّ ممزق، أملا في إنقاذه من خطر حقيق ومكر محيق، فلما أحس الدمويون بذلك أوغلوا في التقتيل والتمثيل، وأضفوا على صور النار والدمار أسماء خادعة، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قِبله العذاب، وادَّعوا الدفاع عن المضطهدين والمستضعَفين ضد ما سموه الدكتاتوريات الحاكمة والأنظمة المستبدة، واصطف بعض المتدينين والإعلاميين والسياسيين في الوطن العربي في صفّ المدافعين عن الربيع العربي المزعوم، وأوهموا الشعوب العربية باقتراب زمن المنِّ والسلوى، الذي تنتهي فيه آلامهم وتتحقق آمالهم، وبقيت هذه الشعوب تنتظر ساعة الخلاص ولكنها صُدمت في النهاية بربيع كاذب صنعه الصهيوني برنارد هنري ليفي، ورقص على أنغامه بعض المهووسين والمندسين والدمويين من جماعة قابيل التي تم استنساخها وترحيلها من الزمن الأول إلى هذا الزمن بكل أرجاسها وأنجاسها.

لقد أفسد ربيع الدم- قراطية الرابطة الدينية والوطنية في المجتمعات العربية وجعل شعوبها طرائق قددا، يتهم بعضُها بعضا بالخيانة، ويزايد بعضها على بعض في الوطنية والقومية وحفظ عرى الدين، بل وصل الأمر بقطاع منهم إلى تكفير المجتمع، وأشفعوا فيما بعد التكفير بالتفجير، وأصبحوا يتباهون على الفضائيات بالأشلاء المبتورة والرؤوس المقطوعة، ثم يبررون هذه الهمجية بفتاوى مشايخهم ومراجعهم، وتحوّل المجتمع العربي إلى ما يشبه ميدانا للثيران الهائجة التي توظف النصّ لتبرئة اللص، وتوظف الفكر لتبرير التكفير، ويمكن أن ننظر إلى أحوال العالم العربي لنقف على ما افتراه هؤلاء وفعلوه بالمجتمعات العربية المعاصرة التي تطوِّقها الفتن وتبرح بها الإحن، ينفخون في رماد الفجيعة ليبعثوا ربيعهم بعد موات ويجدّدونه بعد فوات.

لقد أفسد ربيع الدم- قراطية صورة الإسلام الإنساني وقدَّمه للعالم على أنه لا يختلف في دمويته -حسب زعمهم- عما فعله نيرون وتراجان، ربيع عربي مزعوم غذته بعض فتاوى النصيين اللصوصيين، التي تفرِّق بين الإنسان وأخيه، وبينه وبين بني وطنه، وتعرِّض قبل هذا وذاك الوطن لكل المخاطر التي لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى وتزداد وطأتها مع تعاقب الليل والنهار.

“وصل الأمر بقطاع منهم إلى تكفير المجتمع، وأشفعوا فيما بعد التكفير بالتفجير، وأصبحوا يتباهون على الفضائيات بالأشلاء المبتورة والرؤوس المقطوعة، ثم يبررون هذه الهمجية بفتاوى مشايخهم ومراجعهم، وتحوّل المجتمع العربي إلى ما يشبه ميدانا للثيران الهائجة التي توظف الفكر لتبرير التكفير.”

لست مؤمنا ولا متبنيا ولا وصيا على ما يسمى ثورات الربيع العربي، وأقول إن الإسلام دينٌ يحرص على صناعة الحياة لا على صناعة الموت، وعلى نشر الأمن لأنه من مقتضيات الدين، يقول الله سبحانه وتعالى ممتنا على قريش:  )لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف(، وقد يقول قائل: وما تفسير الحروب التي يخوضها الإسلام ضد الكفار والمخالفين؟ ونقول: إن الحرب في الإسلام شُرِّعت لحراسة الدين وصد العدوان وحماية الإنسان، وهي استثناء لا قاعدة في العلاقات الدولية بدليل قوله تعالى: ) كُتب عليكم القتال وهو كره لكم ، وبدليل أن الإسلام يأخذ بمبدأ الصلح والسلم كلما تهيأت أسبابه، يقول الله تعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:) لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموه فاثبتوا(، ولو كان الإسلام دينا دمويا لحوَّل شوارع مكة بعد صراع مرير مع قريش يوم الفتح إلى سيل من الدماء ومعرض للأشلاء، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، فقد خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم جموع الكفار الخائفة والمتخفية قائلاً: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، فدلوني على قائد حربي في التاريخ فعل هذا بخصومه، إنها أخلاق النبوة التي أعجب بها نصر الدين ديني) إتيان ديني( فألف كتابه )حياة النبي محمد(، وأعجبت بها المستشرقة البريطانية كارين أرمسترونغ فألفت كتابها )محمد نبي لزماننا(.

إن ربيع الدم- قراطية في بعض جوانبه هو نتاج ما يسمى الربيع العربي، لأن التغيير في نظري لا يكون بالأسلوب الثوري وإنما يكون بالأسلوب الحضاري الديمقراطي والحوار المجتمعي والتوافق السياسي، فينبغي أن لا يكون المجتمع أتونا لحرب بينية قومية تحركها نزوة الحسابات وشهوة تصفية الحسابات لأن كل عنف من أي طرف سيدخل المجتمع في دوامة صراع مجتمعي نحن في غنى عنه، وحتى إذا فرضنا جدلا بأن الأنظمة التي ثارت ضدها ثورات الربيع العربي كانت أنظمة قمعية استبدادية، وأن الشرع يوجب تغيير المنكر، فإننا نقول إن هذا الشرع نفسه لا يجيز تغيير المنكر بمنكر أكبر منه، وفي الأخير نحمد الله سبحانه وتعالى نحن الجزائريين أنه أمننا من فيح ما يسمى الربيع العربي، وكل من يراهن عليه فرهانه خاسر.

مقالات ذات صلة