-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رحلة البحث عن رفات شهيد

رحلة البحث عن رفات شهيد

وُلد أخي مقران سنة 1923م في قريتنا إعشوبة (بلدية آزفون، ولاية تيزي وزو)، ثم انتقل مع العائلة إلى حيّ القصبة بمدينة الجزائر على عادة أهل آزفون. وعاش هناك طفولته وشبابه، ودرس بمدرسة إبراهيم فاتح المعروفة بحي القصبة. ثم دخل إلى عالم الشغل، وكان يملك محلا تجاريا في سوق حيّ بلكور مختصّ في بيع الأسماك. وبموازاة ذلك انتسب إلى الحركة الوطنية العاملة على تحرير الجزائر من نير الاستعمار. وفي أوقات فراغه كان يمارس رياضة الملاكمة. بالنسبة لأخلاقه وسلوكه فقد جاء في شهادة الشهود أنه عُرف بمواظبته على أداء الشعائر الدينية الإسلامية.

أتذكر جيدا يوم أخبرتني أختي فاطمة -رحمها الله- أنه باع قطعة أرض بحي “سكالة” بالأبيار (الجزائر العاصمة)، واشترى بثمنها سلاحا. كما أخبرني عمّي الطاهر -رحمه الله- أنه سمع من أخي مقران  حديثا عن الجهاد، ثم أسرّ له أنه قرّر بذل نفسه في سبيل الله والوطن. وعندما اشتد الضغط على الثوار في العاصمة، انتقل إلى مسقط رأسه (قرية إعشوبة) وهناك التحق بصفوف الثورة.

واعتبارا لمساره النضالي في العاصمة ولمستواه التعليمي المقبول، فقد اُلحِق بمصلحة المؤن والمواد الغذائية والألبسة (لوجستيك) في مركز قيادة الولاية الثالثة التاريخية في عهد العقيد عميروش، حسب شهادة المجاهدَيْن محمد أرزقي أعراب، ومحمد جباري. وبلغنا أنه كان ضابطا في جيش التحرير الوطني، وهي المعلومة التي أكّدها أخيرا المجاهد سعيد نايت العربي المدعو “بودواو”.

استُشهد أخي مقران في حدود 1960م كما قيل لنا، في خضمّ الحصار الفرنسي الرهيب المعروف باسم “عملية جيمال” التي انطلقت سنة 1959م في الولاية الثالثة التاريخية. وقد ظل قبرُه مجهولا لمدة ستين سنة، إلى أن وفقنا الله بفضل جهود الأخيار إلى معرفة القبر الجماعي الذي يضمّ رفاته، في مقام الشهداء بقرية آث مسلاين، بلدية أقبيل، دائرة عين الحمام، ولاية تيزي وزو.

كنتُ غداة الاستقلال طفلا في التاسعة من عمري، غير معني بالبحث عن قبر أخي مقران، فتولّى عمّي الطاهر (الذي أناديه “بابا طاهر” كما جرت العادة عندنا) مَهمَّة البحث عن قبره، بناء على معلومات أولية استقاها من بعض المجاهدين، منهم المجاهد أعراب محمد أرزقي من قريتنا (لا يزال على قيد الحياة)، مفادها أنه استُشهد في ناحية عين الحمام (ميشلي سابقا) بولاية تيزي وزو، في خضم “عملية جيمال”. والمنطقة هذه الواقعة على السفوح الشمالية لجبال جرجرة الشاهقة، معروفة بتضاريسها الجبلية الوعرة، وبكثرة عدد قراها. أتذكر أن عمّي الطاهر تجشَّم مشاق الانتقال إلى هناك في السنوات الأولى للاستقلال حيث كانت وسائل النقل منعدمة، وعاد ليُخبر أفراد عائلتنا أن أخي مقران استُشهد في عرش آث هيشم بعين الحمام، وقيل له إن النسوة هنّ اللائي قُمن بدفنه ودفن رفاقه لغياب الرجال. وكان ينوي العودة ثانية للبحث عن قبره، لكن شواغل الحياة حالت دون تحقيق رغبته  ورغبة العائلة.

لم تسعفنِ ظروفي الاجتماعية الصعبة في شبابي للتكفل بقضية البحث عن قبر أخي مقران الشهيد، خاصة وأنني انتقلت إلى العاصمة منذ طفولتي. فقد أرسلتني أمّي سنة 1964م إلى العاصمة حتى لا تفوتني فرصة التعليم، لعدم وجود مدرسة في قريتنا في مطلع الاستقلال، فأكملت دراستي هناك في دار المعلمين بحيّ بوزريعة، ثم دخلت إلى عالم الوظيفة من بوابة التعليم. وبموازاة ذلك كنت أواصل دراستي في مدرسة حرة (مدرسة مكّي بساحة الشهداء)، تمكنتُ على إثرها من نيل شهادة البكالوريا سنة 1973م، ومن ثَمّ الدخول إلى الجامعة.

بدأتُ أهتمُّ بقضية البحث عن قبر أخي مقران الشهيد، في أواخر سبعينيات القرن الماضي بعدما عُيّنت أستاذا في ثانوية عبد الرحمن اليلولي، بمدينة لربعا ناث يراثن (ولاية تيزي وزو) التي تبعد عن دائرة عين الحمام -التي استشهد فيها أخي- بنحو عشرين كلم. وكان بعض أساتذة هذه الثانوية من دائرة عين الحمام، فطلبتُ منهم المساعدة، لأنني كنت آنذاك لا أملك سيارة تساعدني على البحث الميداني عن قبر أخي، في قرى تلك المنطقة الواسعة (جرجرة) ذات الدروب الوعرة. لكن مع الأسف لم تُثمر تلك الجهود المحتشمة عن نتيجة تُذكر.

ظلّت قضية البحث عن قبر أخي مقران الشهيد تراوح مكانها، إلى سنة 2018م، حين زرتُ مدينة عين الحمام للمشاركة في لقاء ثقافي خاص بعلماء آث منڤلات، حيث فتحتُ من جديد ملف البحث عن قبر أخي هناك، فطلب مني بعض الحضور تزويدَهم بصورةٍ  شمسية لأخي الشهيد تساعدهم في عملية البحث، وبالفعل قمت بإرسال الصورة، وكنت أنتظر بارقة أمل، لكنها لم تأت.

وفي المدة الأخيرة اتصل بي السيد بن قداش أمقران المدعو مجيد (إمام بقريته آث ملال، بلدية آث يحيى، دائرة عين الحمام) وأخبرني أنه شرع في الاتصال من جديد بعدد من المجاهدين بحثا عن رفات أخي مقران الشهيد. واستمر الأخذ والرد في القضية، إلى أن كتب الله أن يلتقي سي مجيد بالمجاهد بوسعد حَبَلَه (من قرية ثاسڤا ملول، عين الحمام)، وحدّد لي موعدا معه، فالتقيتُه يوم 9 أكتوبر 2022م بمدينة عين الحمام. قدّمتُ له عرضا عن مسار أخي الشهيد، وأخبرته أن هناك من حدّثني أنه مدفون في مقبرة أڤني لخميس (ثيقورابين) ببلدة عين الحمام، فقال لي بكل ثقة: إن أخاك مقران أعشابو (وهذا هو لقبه الحربي) مدفون في قرية آث مسلاين التي استُشهد فيها عددٌ من الشهداء لم تُعرف هويتهم إلى يومنا هذا.

وعلى اثر ذلك يمَّمتُ وجهي شطر قرية آث مسلاين الواقعة على أحد السفوح الشمالية لجبال جرجرة، وصلتُ إليها رفقة مرافقي عبد الرحمان زروقي (ابن شهيد)، والإمام مجيد بن قداش، في حدود الساعة الثالثة مساء، وقصدنا مسجد القرية كما تقتضي العادة عندنا حيث يوجد مقر “ثاجماعث” الذي يلتقي فيه أهل القرية. وجدنا بعضَ السكان في مقهى قريب من المسجد، وبعد التحية والسلام أخبرتهم بموضوع الزيارة الخاص بالبحث عن قبر أخي الشهيد. وعلى اثر ذلك أخذ أحدهم هاتفه النقال وطلب السيّدَ ولد حميش محمد أحد شباب القرية الذي شارك في إنجاز مقام الشهداء. التحق بنا بعد وقت قصير واتجهنا معا بسيارتي إلى مقام الشهداء الذي يحتوي على قبر جماعيّ ونصب تذكاري مسجّل فيه أسماء الشهداء، وذُيِّلَتْ القائمة بعبارة: «هناك 12 شهيدا غير معروفين».

أخبرني السيد محمد ولد حميش أنّ اسم أخي مقران الشهيد، واردٌ على ألسنة بعض المجاهدين باسم “مقران أعشّابو”، لكنهم لا يعرفون لقبه وبلدته بالتفصيل. اطمأن قلبي إلى كلامه، لأن الاسم يتطابق إلى حدّ كبير مع أخي مقران المولود في قرية إعشوبة كما سبق الذكر.

◙ وفي يوم الاثنين 24 أكتوبر2022م، اتصل بي السيد مجيد بن قداش مرة أخرى، ليخبرني أنه تحدّث في إطار مواصلة المساعي للحصول على مزيد من المعلومات، مع السيد نايت العربي بشير، نجل المجاهد سعيد نايت العربي المدعو بودواو (من قرية آث خليفة) الذي قضى سنوات الكفاح في ناحية آث وَعْبَانْ بجبال جرجرة، فأخبره أن والده سبق له أن حدّثه عن أخي الشهيد “سي مقران أعشّابو”. وفي يوم الثلاثاء 25 أكتوبر2022م اتصل بي السيد الطيب نايت العربي، الإبن البِكر لهذا المجاهد(المدعو بودواو) هاتفيا ليؤكّد لي أيضا أنه سمع عن أبيه اسم الشهيد “مقران أعشّابو” وكان ضابطا في جيش التحرير. واعتبارا لهذه المعلومات القيّمة فقد اطمأن قلبي وعقلي، فقرّرتُ أن أقوم بكل الإجراءات الضرورية لإضافة اسمه إلى قائمة هذا النصب التذكاري. رحم الله الشهداء وأسكنهم فسيح جناته.

◙ الجميل في هذه الرحلة أيضا أنني استفدت منها في مجال السياحة التاريخية، بحيث زرت مَعلمَيْن تاريخيين هامين وهما: معمرة سيدي علي أوطالب التي أسّسها في القرن 17م في حاضرة كوكو (عاصمة إمارة آل القاضي)، ولا تزال عامرة بالطلبة وإن كان عددهم قليل، يشرف عليها الشيخ محمد الوافد من مدينة أدرار منذ سنة 1994م، وتحتفظ هذه المعمرة(الزاوية) ببعض معالمها العمرانية القديمة. كما زرتُ أيضا  قبر ومسجد الشيخ العالم الزاهد “جدّي منڤلات” الذي صار ألآن مجرّد “مزارٍ” دينيّ تقام فيه حلقات الذكر. وكان هذا المسجد في الماضي منارا للعلم تخرّج منه العديد من العلماء حملوا لقب “المنڤلاتي”، استقر بعضهم في بجاية ورحل البعض الآخر إلى المشرق، ولعل أشهرهم أبو روح عيسى المنڤلاتي(من القرن 14م) الذي استقر في مصر وترك هناك عدّة مؤلفات مخطوطة، واشتهر بردّه على رأي الشيخ ابن تيمية في مسألة الطلاق كما ذكر الأستاذ محمد الصغير بن لعلام في كتابه الخاص بعلماء الزواوة. وكان الأستاذ علي أمقران السحنوني – رحمه الله- أوّل من أماط اللثام عن العلماء المنڤلاتيين. لكنهم أصبحوا نسيا منسيا بعد نجاح الاحتلال الفرنسي في إطفاء نور مسجد جدّي منڤلات، عن طريق تأسيس مدرسة فرنسية في القرن 19م، غير بعيد عنه في “وَاغْزَنْ (قرية ثاوْرِيرْثْ منڤلات)، كانت تديرها فرقة مسيحية تضم (الأخوات والآباء البيض)، وكانت تقدم أيضا “خدمات اجتماعية” للقرويين والقرويات، مازالت تحظى بالثناء من طرف بعض الأفراد. بيد أن هذه المدرسة صارت الآن أطلالا كما شاهدتها، ولم يبق منها في الخدمة إلاّ سكناتها الوظيفية وهي مشغولة من طرف بعض سكان المنطقة.

ومن كرامات هذه الرحلة أيضا، أنني أدّيتُ زيارة مجاملة للسيد سي شريف في منزله، وهو المثقف المعروف بحصته الثقافية العريقة التي مازالت تذاع بالقناة الإذاعية الثانية، يستعرض فيها “فرائد” الحكم والأمثال الأمازيغية الموروثة عن الأجداد. وبعد تبادل عبارات التحية والترحاب، طلبتُ منه بإلحاح أن يسعى من أجل تدوين حلقات هذه الحصة الطويلة المسموعة في كتاب لصيانتها من الضياع والاندثار، فأخبرني أنه شرع في تحقيق هذا المشروع.

◙ في الأخير أقدّم جزيل الشكر إلى كلّ من قدّم لي يد المساعدة منذ سنوات، للتعرف على قبر أخي مقران الشهيد،  سواء من قريب أو من بعيد، وأخصّ بالذكر:

  • أعراب محمد أرزقي (مجاهد من قرية إعشوبة، آزفون)
  • جباري محمد  (مجاهد من قرية إعشوبة، أزفون)
  • بن قداش أمقران  المدعو مجيد  (إمام بقرية آث ملال،عين الحمام)
  • سي الطاهر بن طالب (مجاهد من قرية آث سعادة، دائرة عين الحمام)
  • بوسعد حَبَلَة (مجاهد من قرية ثاشڤا ملول، دائرة عين الحمام)
  • ولد حميش محمد (عضو في الجماعة المكلفة بإنجاز مقام الشهداء(النصب التذكاري) الجديد بقرية آث مسلاين، دائرة عين الحمام)
  • ولدا المجاهد سعيد نايت العربي المدعو بودواو، وهما: البشير والطيب.

***

* أخبرتني أختي فاطمة -رحمها الله- أنه باع قطعة أرض بحي “سكالة” بالأبيار (الجزائر العاصمة)، واشترى بثمنها سلاحا. كما أخبرني عمّي الطاهر -رحمه الله- أنه سمع من أخي مقران  حديثا عن الجهاد، ثم أسرّ له أنه قرّر بذل نفسه في سبيل الله والوطن. وعندما اشتد الضغط على الثوار في العاصمة، انتقل إلى مسقط رأسه (قرية إعشوبة) وهناك التحق بصفوف الثورة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!