الرأي
مع شيخ العلماء والدعاة

رسالة خاصة إلى الشيخ الغزالي

حسن خليفة
  • 1376
  • 8

كان الشيخ الغزالي (رحمة الله عليه) من ذلك الطراز الكريم من العلماء والدعاة الذين يهمّهم أن يعرفوا مواطيء أقدامهم وهم يتحرّكون في الساحة الثقافية والدعوية، ومن هنا كان اهتمامه برجع الصدى في دعوته، وبالأخص الثمرات في الميدان، وهذا هو الذي شجعني على تبليغه ما استجمعُه من آراء وأفكار وأصداء، فأبلغه ذلك في أحاديث ولقاءات موصولة حينا، متقطعة حينا آخر، ثم اهتديتُ إلى فكرة الكتابة والتدوين، فسطرتُ مجموعة رسائل في مناسبات وسياقات مختلفة، فيها القصير، وفيها المتوسط والطويل (أربع أو خمس صفحات). للأسف لم يبقَ غير القليل منها؛ خاصة ما تعلق بالجانبين الإنساني والعاطفي.

كانت الرسائل تحاول أن تضعه في الصورة وبيان ما انتفع به مجتمعنا من جهوده: الكتب، المحاضرات، الدروس، الندوات…

تناولتْ ـ في العموم ـ ملاحظات أو محاولات إجابة عن بعض الأسئلة الكبيرة المناسبة لذلك الوقت: ماذا تحقق تقريبا؟ ما هو المنهج الأسلم في تبليغ الإسلام وتعزيز الإيمان في النفوس والقلوب؟ ما هو الأنسب فيما يتصلُ بالعلاقة مع كل الأطياف الإسلامية فيما بينها، بعضها مع بعض، وبينها وبين غيرها؟ وما هو الأنسب أيضا بالنسبة للعلاقة مع المتربصين بالإسلام من أصحاب التيارات التغريبية ممن يحملون عداء ظاهرا أو مستترا للإسلام ومبادئه، وكلّ ذلك مما كان يموج في المجتمع الجزائري في تلك الفترة التي تميزت بصعود تيار الصحوة الإسلامية. وحيث يصعب استعراض الرسائل، فلعل هذه الرسالة هنا تلقي ضوءا على مجموعها، وقد حملت عنوان “خطاب متأخر”، وينبغي أن يُنظَر إليها في سياقها وزمنها (أواسط الثمانينيات من القرن الماضي).. وجاء فيها:

فضيلة الشيخ محمد الغزالي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بداهة! ما أشكُ في أنه ساورتك ظنون كثيرة. وتساءلتَ طويلا مع نفسك: أيمكن أن أكون (إياك أعني) قد قدّمتُ شيئا ذا بال لديني ودعوتي في هذا الوطن، طوال هذه المدة من وجودي فيه؟
وما أشك أنك حاولت أن تستجليّ إجابة شافية وأنت تدير في رأسك المثقل بالهموم الكبيرة صورا ومواقف وأحداثا تشكل شريطا متماسكا، أو غير متماسك، زاخرا بصور ومشاهد الجهاد والدعوة إلى الله، في أنحاء مختلفة من هذا الوطن المترامي.
وأنا أجيب إجابة موقن عارف خبير مطّلع!
وأحسبُ أن ذلك جزءٌ يسير من حقك علينا أعانت ظروف واجتمعت عقبات كأداء دون الوفاء به.
أجيب موقنا: إن الله قد أجرى على لسانك ويديك خيرا كثيرا عميقا.. وقد وفقَك سبحانه على أداء جزء ضخم من الرسالة التي ندبتَ نفسكَ لها في هذا الوطن.
وكما ألمعتُ في سطور سابقات، لقد كان مجيئك ـ بالفعل ـ رحمة مسوقة من الرحمن الرحيم، وغيثا هاميا نافعا لأرض طيبة عطشى.
والآن وقد مضى عامان.. أفلا يمكن أن نبسط بعض الكلام المبشّر، فيما كان وفيما يحسُن أن يكون؟
قد تستزيد، وأكثر الدعاة فيما أعرف، بل أكثر القادة النجب يحبون التفاصيل ويستزيدون منها غالبا!
لقد نزعتَ الفتيل من خيوط فتنة كبيرة كانت تنتظر أن تشتعل:
خيوط تطرف وتنطّع، يستعمل الصدام، ويسعى إلى تكرار تجارب فاشلة.
خيوط سلفية تقصُر عن إدراك سوح الجهاد الحقيقي في صميم الحياة المعاصرة الزّخارة الضاجة، وتبصر ـ فقط ـ القميص واللحية والنقاب، والمصافحة، ومشتقات تلك الفروع وفروعها وفروع فروعها؛ جريا على خط علماء السعودية وأشباههم.
خيوط المتربصين بالإسلام الدوائر، من أصحاب الأهواء والمندسّين وأمثالهم الذين لا يرون في أبناء الصحوة الإيمانية المعاصرة إلا مزاحمين لهم، وإلا طلّاب كراسيّ ومغانم، لذلك هم حربٌ على الصحوة وعلى الشباب وعلى الإسلام… في أيديهم أسياف وخناجر ينتظرون ـ فقط ـ أي فرصة، أي هفوة!.
ثم ماذا… لقد وفرتَ على الإسلام عناء كبيرا وسحبتَ البساط من تحت أرجل الكثيرين ممن ذكرنا سابقا، وممّن لم نذكر، وحفظت الإسلام والفكر من “بلاوي” كثيرة.. كبيرة.
نعم لقد حفظتَ ـ بعون الله وحسن تأييده ـ الإسلام من بلاوي، ووفرت عليه وعلى المسلمين مشكلات ما أشد ّغناهم عنها.
قد تستزيد ولا حرجَ في ذلك!
لقد استقام فكرُ كثيرين واعتدل واستوى. تركوا تلك المتاهات وغادروا تلك الجحور من فكر التكفير والهجرة، وهم الآن دعاة على الطريق، يدعون بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلون ـ إن جادلواـ بالتي هي أحسنُ. وهم من الكثرة تجعلهم ـ فعلاـ دليلا على أن جهودك أثمرت. وإنما أتحدثُ عن ذلك لأنني خبرتُه، ورأيتُ فائدته الجمة.
فيا ما كنا نخشى من أثر أولئك المتنطعين، ويا ما كنا نترقّب، متوجسين من فتن وبلاءات قبل مجيئك، لما تجده أدبياتهم من قَبول، ولما تجده حماساتهم من استجابات سريعة الاشتعال. لكن هذا الفكر انحسر، وتكاد ينابيعه تجفُ اليوم والحمد لله.
لقد تراجعتْ كثيرٌ من “الموضوعات” إلى مواقع ثانوية، لتفسح المجال للموضوعات الكبرى الأحقّ بالصدارة، والأحقَ بالاهتمام، والأحق بالتبليغ والإيصال. وأنا موقنٌ أن الدعوة تقدمت خطوات معدودة، وأن العمل الإسلامي ـ على الرغم من الغَبش اللاصق ـ تأصّل أكثر فأكثر، والطريق الأسلم استبان أوضح فأوضح. وهل نريد غير ذلك في مثل مرحلة كهذه؟ إن الحمد لله، ثم الشكر لشيخنا.
على أن الأعناق تشرئبُّ شيئا فشيئا إلى استئناف حياة إسلامية، وإقامة مجتمع إسلامي ولم يكن هذا ليدور بخَلد أحد قبل بضع سنين خلت.
أفهذه النُقلة النوعية الميمونة تُنكَر وتُجحد؟!
لا، ولكنها مكرُمة نسأل الله تعالى أن يُثقلَ بها ميزان حسناتك “فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية”.
الآن… حين نستعيد جميعا تلك الفترة ونستعرض ما تمّ فيها وما بعدَها، ونحاول التقييم الموضوعي الصحيح والنزيه والسليم.. قد تختلف إجاباتنا ولكننا ـ وأنا على يقين من ذلك ـ لن نختلف في أن للعلماء دورا محوريا في حركة النهضة والإقلاع والتغيير، وقد كان الشيخ الغزالي واحدا من هؤلاء عالما وداعية متبصّرا طيبَ النفس والقلب.. خدم الإسلام بنقاء وخدم الجزائر بحبّ وعلم، وكان له دور في تصويب الكثير من الأخطاء وتعديل بعض الموازين وتأصيل وتجسيد الرؤية الأسلم في الدعوة إلى دين الله تعالى، ويمكن اعتداده في هذا المجال، وغيره كثير، واحدا من كوكبة العلماء الأوفياء لابن باديس في منهجه وصدقه وجهده الموصول الدائب. رحمه الله وأثابه وثبّت أجره.

مقالات ذات صلة