-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رهبان بالليل.. فرسان بالنّهار

سلطان بركاني
  • 509
  • 0
رهبان بالليل.. فرسان بالنّهار

كان رمضان ولا يزال مدرسة تعلّم وتربّي كلّ من تأمّل وتدبّر وألقى السّمع وهو شهيد.. ولعلّ من أهمّ دروسه التي ينبغي لكلّ مسلم أن يعيها أنّنا -معشر المسلمين- لن ننتصر على أنفسنا وعلى أعدائنا إذا كانت البطون والموائد والصّحون هي همّنا الأكبر.. إذا كنا لا نفكّر إلا في وجبة الغداء ووجبة العشاء وما الذي ستحمله المائدة من صنوف الطّعام وألوانه، وإذا كان شباب الأمّة وذخرها لا يفكّر الواحد منهم منذ أن يستيقظ حتى ينام إلا في شهوته ولا تشغل بالَه إلا السبلُ التي توصله إلى قضائها، فلن يعود للأمّة عزّها ولن تخرج من درك الذلّ والهوان الذي سقطت فيه.

سلفنا الأوائل تعلّموا هذا الدّرس من رمضان، فكانوا يكبحون جماح نفوسهم ويقودونها إلى معالي الأمور ويصنعون بها الأمجاد لدينهم وأمّتهم.. كانوا أسودا على الأرض تزأر وحيتانا لعباب البحر تمخر.. كما قال الله عنهم: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))..

عرفوا أنّ النفوس إذا كانت كبارا تعبت في مرادها الأجسام، فربّوا أنفسهم على أن تكون كبيرة لا تنحني لشهوة بطن ولا تخضع لنزوة فرج، ولا تكسل عن فرض أو نافلة، حتى كان أحدهم في زمن التابعين يعقد العزم على منافسة الصّحابة الأولين في مجاهدة النفس فيقول: “أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا، كلا والله! لنزاحمنهم عليه زحاماً حتى يعلموا أنهم قد خلَّفوا وراءهم رجالاً”.. لم يكتفوا بإصلاح أنفسهم والاجتهاد في محاريب العبادة، حتى خرجوا يجوبون الأرض شرقا وغربا يجاهدون في سبيل الله ببطون خاوية وثياب رثة بالية، ولكن بقلوب كزبر الحديد.. وقد سجّل التاريخ أنّ القائد الفذّ، والفاتح المظفّر، عقبة بن نافع -رضي الله عنه- عندما بلغ في فتوحاته أقصى المغرب، وأشرف على ساحل المحيط الأطلسي قال: “اللهمّ اشهد أني قد بلغت الجهد، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله، حتى لا يعبد أحد من دونك”، ثم وقف ساعة وقال لأصحابه: “ارفعوا أيديكم”، ففعلوا، فقال: “اللهم لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تُعبـد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام”.

عندما تعلّموا أنّ البطون ليست هي التي تقود الأجساد وإنّما هي القلوب، كان رمضان في حياتهم شهر جهاد للنفوس والأعداء، وشهر فتوحات وانتصارات.. كانوا رهبانا باللّيل فرسانا بالنّهار، يبيتون بالليل قياما لا يهجعون إلا قليلا، دموعهم تهمل على خدودهم من خشية الله، وفي النّهار ينطلقون أسودا يجاهدون في سبيل الله، وكان منهم من يلقى العدوّ وهو صائم عسى أن يكتب الله له إحدى الحسنيين وبطنه خاوية.. يقول أحد الدّعاة: “من أحيا ليله بذكرٍ وركعات؛ وعمَّره بتلاوة وطاعات؛ وأناره بأوراد ودعوات، وَجَدَ أثر ذلك في نهاره؛ عونًا وفتوحات، وتوفيقًا وهدايات؛ يقول الله تعالى: ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ))”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!