-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أسفار نهايات التاريخ في ذكرى تفكيك سور برلين

روايات المنتصر لتاريخ أسوار العار بين البشر

حبيب راشدين
  • 5914
  • 0
روايات المنتصر لتاريخ أسوار العار بين البشر

قبل أن ينتهي كتاب نهاية التاريخ من تفكيك آخر خرسانة من سور برلين، الذي احتفل الغرب هذا الأسبوع بذكراه العشرين، كان آخرون يشيدون أسوارا مانعة للجوار بين الحضارات، اتخذت من المسلمين عدوا جديدا للغرب، تريد أن تفعل فيهم وفي سواهم من المستضعفين في الأرض، ما فعله ذو القرنين في قوم يأجوج ومأجوج، قبل أن تكتب التاريخ على رواية كاترين الثانية حيث لا تصح روايته إلا على لسان راوي المنتصر، لولا أن الأسوار العديدة التي شيدها الخائفون من الآخر قد نقرها الناقر أو تحولت إلى أطلال تشاهد من سطح القمر، إلا أسوار الكبر والكراهية التي تمنع الشعوب والقبائل من التعارف والعيش المشترك.

فيما كانت المنازلة الكروية التي جرت، أمس، بين الجزائر ومصر تبني جدارا من المشاعر الحمقاء بين شعبين شقيقين، ويستقبل الفريق الوطني الجزائري بالحجارة بدل الورود، كانت أوروبا طوال أيام الأسبوع الماضي تحتفي بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين، الذي أذن لسقوط المعسكر الشرقي، وخروج المعسكر الغربي منتصرا من حرب باردة دامت 44 سنة.
الاحتفال كان ضخما بحضور العديد من رؤساء الدول الغربية، حتى وإن غاب عنه الطابع الشعبي، رغم التجنيد الإعلامي، الذي أراد أن يحيي في هذه الذكرى تفوق النظام الغربي الليبرالي على خصمه الاشتراكي، وحاول أن يصرف النظر عن الأزمة الكبرى التي تعصف بالنظام الرأسمالي العالمي.

 .
 
عندما يكتب المنتصر نهاية التاريخ
 
قبل عشرين سنة، كان المفكر الأمريكي من أصول يابانية فوكو ياما يصدر كتابه الشهير تحت عنوان: “نهاية التاريخ” ولم يكن سقوط جدار برلين غائبا عن مسلماته، التي خلص بها إلى الادعاء بأن تاريخ العمران البشري قد توقف عند النموذج الليبرالي الغربي. وقد احتاج فوكو ياما إلى عشرين سنة، وإلى انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية ليتوب عن غيّه، ويعترف بخطيئته، لكن الحكومات الغربية وكثيرا من نخبها المثقفة، ما تزال تتصرف وفق مسلمات أسطورة نهاية التاريخ، وما زالت تكتب تاريخ الغرب وتاريخ البشرية على طريقة كاترين الثانية، التي كانت تردد أمام حاشيتها مقولة “المنتصر وحده يكتب التاريخ”  وإلا كيف نفهم أن معظم الرؤساء والقادة الغربيين الذين شاركوا في الاحتفال بسقوط جدار برلين، قد شيدوا أو واصلوا تشييد أكثر من جدار حقيقي للفصل العنصري، ولحماية ثروة الدولة من جياع الدولة الجار، بل وإقامة أكثر من جدار مادي ومعنوي داخل الدولة الواحدة، والمعسكر الواحد. وهي مع ذلك لم تأت ببدعة، لأن تاريخ البشرية مليء بمثل هذه المنشآت الصغيرة والعملاقة، التي أنفقت فيها الدول والشعوب الكثير من الجهد والمال، بدافع الخوف من الآخر، وثبت لها بعد حين، أن الأسوار لا تحميها من عدو متحفز، ولا من جار تدفع به الحاجة إلى نقر الجدار والبحث عن نقاط الضعف فيه قبل اختراقه.

 .
 
زبر ذو القرنين ونقر أمم يأجوج ومأجوج
 
ولعل أول جدار بهذا المعنى هو الجدار الذي شيده ذو القرنين، لصرف أذى يأجوج ومأجوج، وقد كانوا قوما مفسدين بنص الآية “قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا( …) فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا” (الكهف 94 و97).
في القرآن الكريم، ثمة إشارة لسور آخر يقام يوم القيامة يفصل بين من أنعم الله عليهم، ومن سوف يجعلهم ربهم لجهنم حطبا “فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب” (الحديد 13).
 سور برلين لم يكن الأول، ولن يكون السور الأخير الذي يشيد بدافع من الخوف من الآخر، ولن يكون الأخير الذي ينقره ناقر، أو يحوله النسيان إلى أطلال. فقد جاء سور برلين كمحاولة من الحكومة الشيوعية لألمانيا الشرقية لوقف النزيف البشري نحو الغرب، وفرار قرابة ثلاثة ملايين من مواطنيها من الفقر والبؤس، ومن مضايقات النظام للحريات، فقامت حكومة هونيكر ببناء الجدار في ليلة واحدة ليلة 14 أوت 1961، فشيدت جدارا من الأسمنت والأسلاك الشائكة على امتداد 47 كلم، وبعلو أربعة أمتار، قسم برلين إلى شطرين، وأوقف النزيف إلى حين تفكك المنظومة الشيوعية، ليس بأيدي الغرب ولكن على يد غورباتشيف، الرئيس السوفييتي الذي قدم المجموعة الشرقية على طبق من فضة للمعسكر الغربي، كما فعل غيره  في مواجهات أخرى، مثل حاكم عكة في زمن صلاح الدين، وقبله أبو عبيد الله في الأندلس، ومن بعدهما حكام كثر قد أصبنا ببعضهم في تاريخنا العربي المعاصر، حين سلم السادات أمن العرب القومي في معاهدة معسكر داوود، وتبعه عرفات في أوسلو، وأتم غيرهم المهمة بتسيلم العراق لجحافل الحملة الصليبية التاسعة.

 .

سور عظيم لغايات صغيرة

 عملية نقر السور التي يحتفل الغرب اليوم بذكراها العشرين، لم تكن لا انتصارا للنظام الغربي الليبرالي، ولا هزيمة للمعسكر الاشتراكي، الذي نراه يتشكل من جديد في القارة الأمريكية الجنوبية. ولم يكن انتصارا لإرادة الشعوب في كسر الأسوار التي تشيد من حولها، ذلك أن كتابة التاريخ، كما يقول بول فاليري، “تبرر كل شيء، ولا يستفاد من دروسها شيء، إنها المنتج الأكثر خطورة للكيمياء التي يدبرها العقل” وإلا لن تجد ما يبرر الجهود والأموال التي صرفت في بناء الكثير من الأسوار التي لم تمنع عدوا ولم توقف جيشا غازيا.
ربما يكون سور الصين العظيم من أقدم الأسوار التي شيدها الخوف من الآخر، وكلف أصحابه الكثير من الأموال والعناء ليتحول، بعد قرون من الزمن، إلى معلم سياحي دون أن يمكن الصين من منع الغزاة الكثر. فقد شيد الشطر الأول من السور تحت قيادة ملوك شونكيو وزانغيو ما بين 800 و400 قبل الميلاد، بدواعي الحماية من شعوب الشمال المنتمية للهانس، وتواصل البناء حتى زمن العائلة الحاكمة من سلالة المينغ، ما بين 1568 و1644م  ليصل البناء إلى 6700 كيلومتر، وهو اليوم المعلم العمراني البشري الوحيد الذي يرى من القمر، غير أنه طوال 2000 سنة لم يحمِ الصين من الغزاة، كما عجزت مثله أسوار دفاعية أخرى شيّدت في العهود القديمة والعصر الحديث، ابتداء من خط ماجينو الفرنسي، الذي تحايل عليه الأمان والتفوا حوله، إلى سور المحيط الذي تجاوزه الحلفاء من جهته الأضعف، وانتهاء بخط بارليف الإسرائيلي، الذي سقط في بضع ساعات أمام القوات المصرية. وقريبا منا لم ينجح خطا شارل وموريس في منع المجاهدين من قطعه واجتيازه عشرات المرات في اليوم.

 .

من سور الإمبراطور هادريان إلى أسوار العم سام

على مستوى آخر، شيدت الدول الغربية الغنية أكثر من سور على حدودها مع جغرافية الفقر والبؤس، فأقامت الولايات المتحدة جدارا من الأسلاك الشائكة، والأسلاك المكهربة، ونظام رقابة بتقنية عالية ومكلفة، لمنع دخول المهاجرين المكسيكيين دون فائدة، فقد تحول السور العازل إلى وكر للمافيا، التي تتحكم في الهجرة السرية وتجارة الأسلحة والمخدرات. ومثله أقيمت أسوار عديدة حول بؤرة الثروة في أوروبا، بإقامة أسوار حول مستعمرات سبته ومليلية، ينقرها يوميا عشرات المهاجرين الأفارقة والمغاربة، وشبكة معقدة من الأسوار العازلة المتحركة، تعزل ضفتي المتوسط، وتتساقط عندها أمواج متعاظمة من بؤساء الجنوب.
قبلهم حاولت الإمبراطورية الرومانية، في عهد الإمبراطور هادريان، الذي شيد سورا عازلا قطع إنجلترا إلى نصفين على امتداد 118 كيلومتر، بهدف حماية المقاطعات الخاضعة للحكم الروماني من هجمات القبائل الإيكوسية المعادية والمشاغبة للحكم الروماني، ومايزال السور يفصل حتى اليوم مقاطعة إيكوسيا عن انجلترا، غير أنه لم ينجح في منع القبائل البيكتية من عبوره ثلاث مرات (في 197 و296 و367م) وتخلت عنه الإمبراطورية سنة 383م.

 .
حيرة شعب الله المختار خلف جدار العار

في العصور الحديثة، كما في التاريخ القديم، نسجل تفاوتا بين الشعوب والأمم حيال بناء الأسوار، ما بين مقل مقتصد، ومكثر منها، وكاره لها كما هو حال العرب في الجاهلية والإسلام. ولعل أكثر الشعوب غواية لبناء الأسوار هم بنو إسرائيل، فكل تاريخهم يدور حول القلاع المحصنة، والمدن المحاطة بأسوار، في حال الغلبة كما في حال الاستضعاف. فيهود خيبر لم تثنِهم  طبيعة الصحراء، وثقافة العرب الكارهة للأسوار  والتحصينات، لم تثنهم عن بناء مدن محصنة، وأسوار أقاموها بينهم وبين القبائل العربية بيثرب، ومع ذلك لم تحمهم حصونهم من جيش المسلمين، الذي لم يكن يعرف شيئا عن تكنولوجية اقتحام القلاع والمدن المحصنة. وقد نقلوا هذه الثقافة في شتاتهم عبر العالم، واختاروا العيش في غيطوهات، كثيرا ما سهلت على خصومهم الانفراد بهم والبطش بهم بيسر. وها هم اليوم وقد أعيدت لهم الكرة، يسارعون لبناء جدار العزل العنصري، يتفوق في بشاعته وأهدافه العنصرية الاستعمارية على جميع الأسوار التي شيّدت لنفس الغايات، ويتفوق على جدار برلين الذي أقيم لغاية هي بالتأكيد أشرف من الدوافع التي قادت الصهاينة إلى بناء جدار الفصل العنصري، وليس غريبا إذن، أن يختصهم القرآن بالذكر بهذه الخصلة: “لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر” (الحشر: 14).

 . 

أمة البيوت من الشعر والأبيات من الشعر

جميع الامبراطوريات والقوى العظمى في التاريخ، لجأت إلى بناء الأسوار العازلة، والقلاع والخطوط الدفاعية بأنواعها، وحدهم العرب شذوا عن القاعدة، فلا تكاد تجد، في تاريخ بداوتهم أو تمدّنهم، ميلا إلى اتخاذ الحصون والقلاع، فلم تشهد الحظائر العربية، وعلى رأسها مكة والمدينة، في الجاهلية، كما في الإسلام، أية محاولة لتحصينها، حتى بعد أن صارت في عهد الإسلام أقدس مقدسات المسلمين. فقد كانت نظرتهم للحروب والمنازلات محكومة بمجموعة من قيم الشجاعة والفروسية، مع تفوقهم في فنون الكر والفر، حتى أنهم كانوا يستحيون من التروس والدروع، ويفضلون السيف وهو سلاح  الالتحام والمقاتلة عن قرب، عن الرمح والنبال وأسلحة القتل عن بعد. ولأن ثقافة الحصون والتمترس خلف الجدران كانت غائبة عند العرب، فقد رأينا الأمير عبد القادر يقدم على ابتكار عسكري وإداري فذ، ببناء الزمالة في شكل عاصمة إدارية وعسكرية واقتصادية متنقلة لدولته المحاربة، ظلت مستعصية على المحتل طيلة سبع عشرة سنة.
هذه السمة لازمت العرب طوال تاريخهم القديم والحديث، يشهد عليها عمرانهم، وسياستهم في قيادة الحروب، فقد خاضوا معظم حروبهم  في مواجهات مكشوفة، ومع ذلك أظهروا براعة في اقتحام الأسوار والقلاع والحصون التي شيّدتها الأمبراطوريات الرومانية والفارسية، ولم يلجأوا إلى تشييد حصون تحميهم من الشعوب التي تم فتح بلدانها، وشيّدوا في الأندلس روائع عمرانية، ومدن مفتوحة على الآخر، وكان هذا العمران المنفتح على الآخر، أكبر شاهد على أن العرب لم يحملوا في ثقافتهم أي نزعة للانغلاق على الذات، ولم يتحصنوا لا داخل حصون من الحجارة والخرسانة والحديد، كما فعلت وتفعل الامبراطوريات القديمة والحديثة، ولا بأسوار ثقافية وفكرية من الاحتقار والكراهية للغير، وهي لعمري أبغض الحصون وأكثر الأسوار دواما في الزمن.

 .

أسوار الغرب المانعة للجوار بين الحضارات

التاريخ يشهد أن سور برلين اللعين، لم يكن أول سور يسقط، ولن يكون آخر سور تنتفي فعاليته مع الزمن، وأحيانا في اللحظة التي تنتهي فيها الأشغال، لكن التاريخ يشهد أن الأسوار الفكرية والثقافية التي تمترست خلفها كثير من الحضارات  في الشرق والغرب ماتزال قائمة، بل وتزداد تماسكا وصلابة. فالحضارة الغربية التي قامت على جماجم الشعوب المستضعفة في القارات الخمس، وعلى إبادة الجنس وحضارة الآخر، كما فعلت مع حضارات الهنود الحمر الراقية في أمريكا، والحضارات الإفريقية الغنية والمتنوعة، هي ذاتها الحضارة التي تعمل على إلغاء ثقافة الآخر وميراثه الثقافي والحضاري، وهي تعمل كما وصفها الفيلسوف هوبز بسلوك وحش الليفياتون الخرافي، بقدر عال من الافتراس.

قبل يومين، خرج علينا الرئيس الفرنسي، وهو ابن من أبناء بني إسرائيل، المتعودين على حياة الغيطوات والخوف المرضي من الآخر، خرج علينا بخطاب حول الهوية الوطنية الفرنسية، في سياق حملة عنصرية على أبناء وطنه من العرب والمسلمين والأفارقة والأسيويين، ألقى فيه بمجموعة من اللبنات، التي تصلح لتشييد سور جديد من الفصل العنصري، وكال فيه ما شاء الله من التهم، ووجه ما شاء الله من التحذيرات لمواطنيه من أبناء الجاليات العربية والإسلامية تحديدا، واختزل وطنيتهم وانتماءهم للوطن الذين ولدوا فيه، وخدمه آباؤهم وأحيانا أجدادهم، اختزل وطنيتهم في  مقدار انصياعهم لطقوس العقيدة العلمانية الفرنسية، وقال إن فرنسا – التي تسمح بالعري التام للذكور والإناث، وأباحت الزواج المثلي، ومنحت المثليين من الجنسين الحق في التبني وتربية الأولاد من أصلاب الغير، ويحقق فيها قطاع النشاطات التي تقتات من تجارة الجنس والخلاعة رقم أعمال، يفوق ميزانية معظم الدول الإسلامية – قال إن فرنسا لن تقبل في شوارعها بمن يرتدين البرقع. أحد الصحافيين الفرنسيين ذكر على أحد البلاطوهات التي خصصت للاحتفال بالذكرى العشرين لسقوط سور برلين، ذكر كيف أنه أصيب بصدمة بعد عودته من برلين ساعات بعد سقوط الجدار، ليشهد في بلده فرنسا انطلاق حملة بناء سور جديد، قوامه الإشارة بأصابع الاتهام لأصحاب الفولار من مسلمات فرنسا، وعلم وقتها أنه يشهد لحظة بناء سور جديد، وتوليد عدو جديد للغرب يخلف العدو الشيوعي. وقد رأينا كيف بدأ الغرب في تشييد جدار جديد، مع أمة يزيد تعدادها عن ربع سكان المعمورة، أعطيت إشارة بدء الأشغال فيه سنة 1991  بالعدوان الثلاثيني على العراق، سنتين فقط بعد سقوط جدار برلين، وكان السياسي الفرنسي شوفانمون أول من وصف ما يجري في العراق وقتها بعملية بناء جدار برلين جديد، سوف يتعزز مع إدارة المحافظين الجدد بغزو أفغانستان والعراق، وانطلاق أكبر حملة لملاحقة المسلمين وبناء سور مع الحضارة الإسلامية.

    أضف تعليقك

    جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

    لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
    التعليقات
    0
    معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!