زيارة بن بلة السرية إلى باريس!
لم يكن ـ في يوم من الأيام ـ السجال أو بالأحرى التراشق الإعلامي بين الشخصيات التاريخية والثورية بهذا الزخم وبهذه الحدة التي نشاهدها اليوم، ومع ذلك يقول وزير المجاهدين إن ذلك يعدّ ظاهرة صحية، وبالتالي: هل الشهادات أو التصريحات الكاذبة ولخلفيات شخصية وحسابات سياسية وحتى جهوية والتي تدار أحيانا حربها بالوكالة تعفي صاحبها من المتابعات القضائية؟ أم تبقى في دائرة المعارك التاريخية التي على المؤرخين والمختصين غربلتها؟
وإذا كان الأمر كذلك على حدّ رؤية وزير المجاهدين للأمور، هل ضاقت مساحة البحث عن الحقيقة التاريخية على مستوى مراكز البحث والجامعات حتى تهرب إلى الساحة الإعلامية التي قد يكون ضررها أكبر من نفعها على الرأي العام وعلى الأمن الفكري وبالخصوص في صفوف الأجيال التي كانت تقدس الثورة والمجاهدين الأحياء منهم والأموات؟ وهل تصلح المعارك الإعلامية بهذا المستوى في ظلّ تفشي الفتن التي تمر بها الدولة؟ لا أعتقد أن تصريح السيد الوزير هو في التوقيت الصحيح، وبالخصوص أن الجزائر تمرّ بظروف سياسية واقتصادية صعبة غابت فيها النخبة عن القيام بدورها المنتظر منها.
إذا كانت المذكِّرات السياسية والتاريخية صالحة للاستئناس بالنسبة للمؤرخين كما يرى البعض الذي لا يجد فيها الحقيقة الموضوعية التي يمكن الاعتماد عليها، فهل يسري ذلك على الجميعّ أم إن هناك استثناءات لا يُطبَّق عليها هذا المنطق وهذه القاعدة مثل الرؤساء؟
إذا عدنا إلى مذكرات أول رئيس للدولة الجزائرية المرحوم احمد بن بلة رحمه الله والصادرة عن دار الآداب المصرية (ترجمها من الفرنسية المفكِّر التونسي العفيف الأخضر) والتي أملاها سنة 1964 على الصحفي روبير ميرل، الذي يقول إن بن بلة قد جلب لي جهاز تسجيل الحلقات التي أجريتها معه حتى يعفيني من تعب كتابة اللقاءات التي استغرقت معه 15 جلسة كانت كل واحدة منها تدوم ساعتين أو ثلاثا، تطرق فيها بن بلة بالتفاصيل إلى ذكرى مولده ومسقط رأسه وعائلته التي قضى عليها المرض، والظروف الصعبة التي عاشها بعد وفاة إخوته ووالده، وولعه المبكر بالرياضة التي التجأ إليها ليعوّض عن كثير من الأشياء الجميلة التي حرمته منها الحياة القاسية آنذاك.
ولكن أهمّ مرحلة يجب التوقف عندها من حياة بن بلة هي تلك التي استدعي فيها سنة 1938 للخدمة العسكرية، وانتقاله إلى مرسيليا التي دافع عنها ببسالة كقائد عسكري مع مجموعة من العسكريين ذوي أصول جزائرية ومغربية وحتى فرنسية، ضد هجمات القوات النازية إلى درجة أن فرنسا قلّدته أوسمة، عرفانا له بالخدمات العسكرية التي قدمها لها، وهذا بالتأكيد ستكون له انعكاساته على مستقبل العلاقة بين بن بلة والقيادة الفرنسية، فلقد جاء في مذكرات بن بلة ذكر شهادة محامية بن بلة، مادلين لافي فيرون (محاميته الفرنسية حين اعتقاله بعد انقلاب 19 جوان 1965)، حيث يقول عنها الصحفي روبير ميرل في الصفحة رقم 13: “وتكشف النقاب عن لقاء سري بين بن بلة والرئيس الفرنسي الراحل ديغول: فقد بادر بن بلة في عام 1964 لزيارة باريس بصفة سرية لمدة ثلاث ساعات، واجتمع بالجنرال ديغول في قصر البساتين، وقال لي بن بلة إنه ناقش مع الجنرال ديغول العلاقات الثنائية المشتركة بين البلدين، وقد طرح عليه ديغول عدة أسئلة بخصوص جمال عبد الناصر وأحمد سيكوتوري وبعض قادة العالم الثالث الذي كانوا أصدقاء للثورة الجزائرية وكانت نتائج ذلك اللقاء جيدة بالنسبة للطرفين…”.
هل هناك أسرارٌ خطيرة أخرى لا نعلمها كالتي كشف عنها أول وزير للعدل في الحكومة الجزائرية، المرحوم عمار بن تومي، خلال ندوة صحفية قبل وفاته من أن بن بلة وباتفاق سري مع ديغول، عمل على تهريب “الحركى” إلى سويسرا تحت مظلة الصليب الأحمر الدولي حتى لا يتم البطش بهم
والسؤال الجوهري أمام هذه الرواية التي أضعها تحت مسؤولية المؤرخين والمختصين من الباحثين، هو: ما مدى صحة هذه الرواية؟ وإذا حدثت الزيارة فعلا، لماذا تمت بسرّية ومباشرة بعد الاستقلال ودماء الشهداء والجرحى واليتامى والثكلى والمقهورين من المعذبين داخل وخارج السجون لازالت تنزف وساخنة؟ وما هي النتائج الإيجابية التي تحصّل عليها بن بلة لصالح الجزائر والجلسة دامت لثلاث ساعات؟ وهل المنتصر في المعركة هو الذي يزور المهزوم أم العكس، إنها أسئلة كثيرة تفرض نفسها علينا، وبالخصوص إذا سجلنا أنه بعد هذه الزيارة السرية قامت فرنسا بتجاربها النووية في صحراء الجزائر لازالت تحصد وتشوّه أرواح الأبرياء، فهل كان ذلك في مصلحة الجزائر؟ ومن يتحمّل تبعات هذه الجريمة من دون فرنسا؟
إذا كانت الزيارة السرية التي أداها بن بلة واجتمع فيها بالجنرال ديغول هي التي أسقطته من كرسي الرئاسة بقيادة بومدين وسُمي الانقلاب حينها بـ”التصحيح الثوري” الذي خُلِّد بيوم 19 جوان لسنوات طويلة، لماذا ألغى الرئيس بوتفليقة الاحتفال بهذا اليوم إذا كان من الناحية السياسية لصالح الجزائر؟ وهل هناك أسرارٌ خطيرة أخرى لا نعلمها كالتي كشف عنها أول وزير للعدل في الحكومة الجزائرية المرحوم عمار بن تومي خلال ندوة صحفية قبل وفاته من أن بن بلة وباتفاق سري مع ديغول عمل على تهريب “الحركى” إلى سويسرا تحت مظلة الصليب الأحمر الدولي حتى لا يتم البطشُ بهم؟ هل يُعدّ ذلك عملا إنسانيا أم خدمة لديغول حتى يتلقى منه الدعم للتمكين لسلطته التي طالما قيل إنها كانت مخترَقة من طرف مخابرات جمال عبد الناصر؟
وفي الختام نتساءل مرة أخرى: ألم يكن الزعيم بن بلة صورة ونموذجا للقائد العربي المزدوج الشخصية الذي يتميز عن غيره من قادة العالم الحر والمحترم بأن له جوفين أو أكثر في قلب واحد وسنة الله في خلقه كما جاء في القرآن الكريم: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)؟ وتلك هي المشكلة التي وقعت فيها الدول العربية بعد التحرر من الاستعمار الذي أضحى هو من يقرر أو على الأقل يبارك ويؤشر على هذه الشخصية أو تلك لتولي منصب الرئاسة، وحتى ما هو دونها في زمن الاستقلال الذي شهدنا فيه زياراتٍ سرّية حتى لإسرائيل التي هي كذلك أضحت لاعبا أساسيا في تثبيت حكم عبدة السلطان.