-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سبتمبر والجهل المؤسس !

عدة فلاحي
  • 1520
  • 0
سبتمبر والجهل المؤسس !

لقد مرت الذكرى 14 على الحدث العالمي الذي أفزعنا ذات يوم من 11 سبتمبر 2001 دون أن يحرك وعينا ويدعونا إلى مراجعة تفكيرنا وطريقة حياتنا اليومية. وهذا السلوك السلبي الذي غطته الأقلام الصحفية وغابت عنه الأقلام الفلسفية أو حتى الإسلامية المستنيرة لهو أخطر على مستقبلنا كأمة لم تتعظ من ثقافة الدمار التي أنتجها تنظيم “القاعدة”، ولكن على حد قول الكاتب والمفكر السوري هاشم صالح، المقيم في فرنسا منذ عقود طويلة: “لقد همشت داعش باستباحتها وتدميرها وجعلتنا نستهين بما وقع منذ أكثر من عقد بإسقاط برجي الولايات المتحدة الأمريكية اللذين من السهل تعويضهما” ولكن: هل العملية سهلة وبسيطة حينما يدمر الإنسان ببشاعة المكان الحضاري الذي يعود عمق زمانه إلى قرون طويلة؟ ذلك هو السؤال الذي يجب أن يقلقنا ويشغل تفكيرنا.

إذا لم تحرك فينا الصدمات التاريخية ذلك القلق المعرفي والثوري، فذلك يعني أننا استسلمنا للعبودية، العبودية للجهل وللجهلة وللقوى المهيمنة المؤمنة بصدام الحضارات. وهنا، حينما أدعو إلى المراجعات المعرفية والفلسفية وليس السياسية السطحية، لا أتفق تماما مع المفكر هاشم صالح حينما دعا إلى قطع صلتنا باليقينيات المقدّسة. فهذه الدعوة تدخلنا في متاهات لا يمكن الخروج منها، كما أنها تتحول إلى ذريعة في يد الأصولية المتطرفة لإفشال أي خطوة جدية من أجل بناء منظومة إسلامية مستنيرة تقترب منها مدرسة الإخوان ولو بخطى ثقيلة وحذرة. وبالتالي، أجدني مرة أخرى على غير توافق مع الكاتب هاشم صالح حينما يقول إن القفزة التي ننتظرها بعد “الربيع العربي” في كل من مصر وتونس، تواجه عرقلة من القوى الإخوانية والسلفية، وإن كنت أوافق رأيه حول السلفية التي تعادي وتكفّر حتى الإخوان.

قد يكون الكاتب هاشم صالح متفائلا جدا حينما يحدد أن مخاض الحداثة يتطلب منا ثلاثة عقود فقط إذا ما أحسنا الاستثمار في حدث 11 سبتمبر كما جاء في مقال بعنوان “من 11 سبتمبر إلى تدمُر” وما ذلك إلا لأن هيمنة المدرسة الإسلامية المتشددة والتكفيرية قد جعلت التطرف سلعة من السهل اقتناؤها وتبنيها كعقيدة ومنهج حياة، وذلك لبساطتها التي نفذت من خلالها بين العوام الذين سيطروا على المشهد العام وبالخصوص بعدما غيب الموت المراجع الدينية المعتدلة. كما أن المؤسسات الدينية الرسمية في العالم العربي بسبب موالاتها الساذجة والفاضحة للأنظمة الحاكمة، ولجمودها وتخلفها قد ساهمت هي الأخرى في انتشار الإرهاب والغلوّ الذي تحول إلى امرأة حسناء ذات إغراء وبائعة هوى تنتظر على قارعة الطريق من فشل في ربط علاقة حميمية ومشروعة مع امرأة محترمة.

الأمر الذي يجب أن نتفق حوله هو مراجعة ونقد اجتهادات الفقهاء وفهمهم للنص الديني والتصدي لأنصاف المتعلمين والجهلة ممن لا يعقلون من القرآن إلا رسمه.

إذا كنا من المؤمنين بالحداثة وفق المنظومة الإسلامية، ومن دعاة الحوار والتعاون والاستفادة من الحداثيين المعتدلين، فهذا لا يعني أننا مستعدون لكسر كل الطابوهات لبلوغ هذا الهدف. فإذا كان للإسلاميين الأصوليين عيوبهم فكذلك للحداثيين الذين يريدون القفز على الثوابت وما هو معلوم من الدين بالضرورة. والأمر الذي يجب أن نتفق حوله هو مراجعة ونقد اجتهادات الفقهاء وفهمهم للنص الديني والتصدي لأنصاف المتعلمين والجهلة ممن لا يعقلون من القرآن إلا رسمه من أمثال الكاتب المغمور المدعو الجيلان الذي نشرت له “مؤسسة الصمود للإنتاج الإعلامي” القريبة من “داعش” مقالا خلال شهر سبتمبر بعنوان “بني علمان لا تنعموا بتونس سنفتحها قريبا بإذن الله”. فهو يقول: “لعب بتونس الخضراء علمانيون وحزبيون وملحِدون وإسلاميون مرتدّون، وأخيرا بلاعمة سوء حرفوا سير العمل الجهادي إلى دعوي..”. ففي نظر هذا السفيه كل هذه المجموعة على ضلالة ويجب محاربتها بما فيها الإسلاميون الذين “ارتدوا؟” حسب زعمه لأنهم رضوا بالديمقراطية التشاركية وبذلك “عاث الغنوشي في الأرض لا بل في الدين الفساد، وحارب الإرهاب كما هي عادة الإخونجية المفسدين كعربون صداقة إلى أوروبا والغرب، ورسالة طمأنة لهم بأن الإخوان أصحاب منهج وسطي بل منهج مايع يسير نحو الردّة… ثم أزاح العلمانيون الغنوشي وحزبه ليخرج الغنوشي المرتدّ يهنئهم ويسلمهم الحكم لأنه يؤمن بالديمقراطية الكافرة”؟!

إذن، من خلال هذه الفقرة المقتبَسة من المقالة المشؤومة، تتأكدون من أن مثل هؤلاء لا يفقهون شيئا في عالم السياسة ولا دراية لهم بقاعدة “السياسة فن الممكن” وبسنّة التدرج والمرحلية.. وما ذلك إلا أن ذهنية التطرف هي الغالبة على تكوينهم العقلي والديني والنفسي السطحي والساذج، وإلا كيف لهذا المدعوّ الجيلاني أن يسمح لنفسه بتكفير الجميع وباستباحة دمائهم وبالخصوص حينما يتوعد بالقول: “وأنتم يا علمانيي تونس أبشروا بما يسوؤكم فقد جئناكم بالذبح…” نعم هذه هي عقيدتهم: الذبح والدمار، أما البناء والتنمية، فإنه عملية شاقة ومعقدة لا قِبل لهم بها، وبالتالي أعود فأقول إنه من الواجب علينا اليوم قبل الغد كإسلاميين وسطيين وعلمانيين معتدلين وضع ميثاق شرف لبناء المستقبل القائم على الحرية والاحترام المتبادل للقناعات واحترام إرادة الشعب الذي هو صاحب القرار فيمن يحكمه كما تقتضيه قواعد الديمقراطية التي ارتضيناها جميعا أسلوبا للحكم ونترك قراءة التراث الديني للباحثين والمختصين دون تسييس.

ذهنية التطرف هي الغالبة على تكوينهم العقلي والديني والنفسي السطحي والساذج، وإلا كيف لهذا المدعوّ الجيلاني أن يسمح لنفسه بتكفير الجميع وباستباحة دمائهم.. نعم هذه هي عقيدتهم: الذبح والدمار، أما البناء والتنمية، فإنه عملية شاقة ومعقدة لا قِبل لهم بها.

وبذلك نكون فعلا قد استفدنا من حادثة 11 سبتمبر التاريخية وشرعنا في البناء الحضاري الذي يتطلب منا في البداية التحرر والانعتاق من ربقة الجهل المؤسس الذي تحدث عنه المفكر والفيلسوف الراحل محمد أركون الذي لا نسلّم له هو الآخر عقلنا بسهولة كما أوصى بذلك في مجمل بحوثه التراثية النقدية التي حاول من خلالها نسف الأساطير والخرافات التي خدّرت العقل الإسلامي لعقود طويلة.

 

 

*باحث في الإسلاميات

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • فتح الله

    أضف الى ذلك أن الحداثة تتجاوز كونها لباسا جاهزا يشترى, بل بناءا بالضرورة موافقا للأٍرضية التي يبنى عليها و يستغرق زمنا يقصر فعلا كلما تحسنت أدوات البناء, و لكن هذا لا يغني عن العامل الماهر و اللبنات القوية.
    و الكارثة أن عمالنا (أصحاب القرار) ضعفاء و غشاشين أما اللبنات (الأفراد) فمنهكة بل أمست لا ملة لها. و في ظل غياب العامل المؤهل و اللبنات القوية لا أمل يرجى حتى على المدى المتوسط.

  • فتح الله

    لمشروع العولمة الأمريكي(والروسي) , و الذي جوهره الهيمنة و 'تعميم' النموذج الغربي علاقة بفوضى أفكارنا .
    فمثلا لم نسمي المجاهدين ارهابيين أيام الحرب الباردة, كما أن لا عاقل ينكر أن القاعدة صناعة أمريكية حققت أهدافا مرحلية , و ان تجاوزت مجال فعلها الزماني و المكاني, و هو الاطار الذي تندرج تحته أحداث 11 سبتمبر.
    في اطار هذا الصراع بين القوى الكبرى, يندرج جدلنا حول مسألة الحداثة. و أول طامة هو ايمان مثقفينا اللاواعي بوجود نموذج حداثي وحيد (نهاية التاريخ), و هو أمر تفنده القوى الصاعدة الجديدة اليوم.

  • محمد63

    الجمود على الماضي وغياب ثقافة النقد والمراجعات الفكرية البناءة وتقصير أهل الاختصاص من العلماء والمفكرين في الاضطلاع بأدوارهم كل ذلك ساهم في خلق هذه البيئة العفنة التي ترعرت فيها عصابات التطرف وقطعان الإجرام باسم الاسلام.
    شكرا الأخ عدة فلاحي على هذا المقال القيم الذي شخصت فيه الداء ووصفت الدواء.وفقك الله للمزيد وسدد خطاك.