-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

سدود الدّنيا كلّها تُدكّ يوم القيامة

أبو جرة سلطاني
  • 679
  • 0
سدود الدّنيا كلّها تُدكّ يوم القيامة

بإقامة السدّ تحقّق مقصد درْء المفسدة، ولكنّ ذا القرنيْن لم يبرح القوم حتّى وضع لهم معالم فقه شكر النّعم وبصّرهم بما سيكون من أمر هذا السدّ قبل قيام السّاعة: ((قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)) (الكهف: 98). لما فرغ من بناء السدّ وتحقّق المقصد من إقامته وأيقن أنّ تسلّقه، أو الظّهور عليه؛ أمرٌ غير متاح ليأجوج ومأجوج، وأنّ خرْقه والنّفاذ من خلاله إجراء مستحيل. أعلن أمامهم أنّ الله قد أرسله رحمة بهم في الحياة الدّنيا. أمّا يوم الحساب فلا تنفع معه السّدود ولا المصدّات ولا الحواجز.

هكذا يختم كلّ مصلح عمله بردّ الفضل فيه لله وحده، وإسناد النّعمة كلّها له، فهو -جل جلاله- المنعم الأوّل على جميع خلقه، وكلّ ما يقدّمه النّاس للنّاس من خدمة إنما هي مجرّد حركة آخذة بالأسباب تجعل فقه المثال فقها واقعيّا، وتحوّل أموال الخراج مشاريع عمل مجديّة، وتؤكّد حقيقة تاريخيّة ضخمة مفادها: أنّ الذّكاء الفرديّ يمكن أنْ يصبح عملا جماعيّا إذا تواضع صاحبه لخدمة الصّالح العام فسخّر نعمة ذكائه في بناء المشاريع العامّة التي تنتفع بها الأمّة خاصّة وبعمّ خيرُها البشريّةَ جمعاء. يحدث هذا إذا تخلى القائد عن أحلام صناعة البطولات الفرديّة بإعلان أنّ كلّ ما فعله رحمةً بالنّاس من ربّهم.

يا لعظمة من يسّر الله له أنْ يولد كبيرا، ويعيش كبيرا، وينجز للبشريّة ما ينفع جيلَه ويظلّ نفعه مستمرّا إلى يوم النّفخ في الصّور. كلّ هذا الفضل، وكلّ هذا الجهد، وكلّ هذه المشقّة، وكلّ هذا الذّكاء والإيثار والتّعفّف والفطنة والجمال.. يتوشّح بوشاح الشّكر للمنعم ويتوّج بتاج التّواضع الذي يردّ لله الواحد الوهّاب كلّ فضل وكلّ نعمة وكلّ إنجاز.. وينسب الأمر كلّه لمن يسّر الأسباب -جل جلاله-: ((قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)) (الكهف: 98)، ما بقدري سرت إليكم ولا أنا من سخّر الأسباب ولست أنا من اقترح بناء السدّ ولا من جمع الحديد وكدّسه وألّف بين قطعه داخل هذه المفازة.. ولست أنا من أوقد النار ولا من نفخ فيها ولا من أفرغ على الحديد قطًرا.. ولا أنا من أنجز ولا أنا من رحم. إنما هي رحمة الله بي وبكم.

هكذا الكبار لا يعرفون الأنانيّة والنّرجسيّة ولا يتحدّثون عن أنفسهم ولا يفاخرون بما فعلوا، فالله يعلم ما صنعوا وهو عليم بالنّوايا، وهو من يكتب ما قدّموا وآثارهم. وإذا شاء أجرى ذكرهم على ألسنة النّاس فخلّد التّاريخ آثارهم أو أنزل سيرتهم وحيًا يُتلى إلى يوم القيامة، وتلك شيم العظماء التي لا تضيع عند الله.

أمّا صغار النّفوس فيعلمون أنهم منسيّون، وأنّ أحلامهم صغيرة بحجْم نفوسهم. فإذا فعلوا خيرا ذكروه وبالغوا في تضخيمه وأبطلوه بالمنّ والتّطاول على النّاس وحبّ المدح بما لم يفعلوا، وهم موقنون أنهم ذرّ لا يُرى إلاّ إذا وضعوا أنفسهم تحت مجهر النّفاق ليكبروا فيرى النّاس أجسامهم ضخاما بخداع بصريّ متهافت. وتلك صفة شيطانيّة تحبط العمل ولو كان بحجم الجبال.

  • فإبليس رأى نفسه كبيرًا فرفض السّجود لآدم -عليه السّلام- وقال أنا خير منه.
  • وآدم -عليه السّلام- نسي فأخطأ فسارع بالتّوبة وبرئ من ضعف نفسه إلى حول ربّه.
  • وصاحب الجنّتيْن غرّته المظاهر فظنّ أنه عزيز بالمال والبنين ونسيّ الرزّاق.
  • أما من كان غنيّا بدينه فلم تغره البهارج وظلّ يذكّر صاحبه بجوهر ما في الإنسان.
  • والخضر -رضي الله عنه- مع ما أوتيّ من رحمة وعلم ردّ الفضل كلّه لله.
  • وذو القرنيْن لم يغادر ساحة القوم حتّى ترك وصيّته بأنّ كلّ ما فعله كان رحمة من ربّه.

ليسوا سـواء؛ فالذين يظنّون أنّهم أوتوا ما أوتوا بعلم عندهم -كحال قارون- نهايتهم إلى بوار. وأمّا من يردّ الفضل كلّه لله رحمة منه فحاله في دنياه راحة بال وطمأنينة قلب وذكر حسن بين النّاس، ولن يُضيع الله أجره يوم الحساب. وهو ما عاش له ذو القرنيْن وما حرص على تعليمه لكلّ من ساقته أقداره إلى ملاقاتهم.

كان مُمكّنا في الأرض بما آتاه الله وبما جعل له من كلّ شيء سببا فردّ الأمر كلّه لله؛ فلا أنانيّة طاغيّة بسبب إنجاز كبير يعلم يقينا أنّ الفضل الأوّل فيه للّذي يسّر له الأسباب فتواضع له وأعلن أمام الملإ أنه جزء من رحمة ربّه وأداة تنفيذ بمشيئته وقدرته، فلا فضل له في ما صنع. ولا فخر ولا منّ ولا تطاول.

لم يسأل من عمل لهم جزاء ينقض به أجره، ولا حمدا يبطل به صدقاته. بل ردّ ما عُرض عليه من أجر، وأعلمهم أنّ ما أعطاه الله خيرٌ ممّا عندهم، وقد أرسله الله رحمة لهم، وعليهم أن يردّوا إليه كلّ فضل بشكر وحمد وثناء. فكلّ ما تمّ إنجازه تمّ برحمة من الله، وهو نفسه جزء من هذه الرّحمة. فالإنجاز يستأهل التّنويه والفخر لكنّ رحمة ربّي أوْلى وأفضل بأنْ نتعلّم منها التّواضع واليقين بأنّ كلّ فضل يمنّ به اللّه على عباده هو جزء من رحمته بهم: فالثّروة لله. والذّكاء من فضل الله. والقدرة على الإنجاز لا تتمّ إلاّ بتوفيق من الله. وإقامة المشاريع المانعة من تمدّد الفساد في الأرض عبادة له وحده لا شريك له.. فماذا بقيّ للأنانيّة البشريّة من فضل تفتخر به على عباد الله؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!