-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سقط الأسد… ويبقى عرين الهوية صامدًا!

سقط الأسد… ويبقى عرين الهوية صامدًا!
ح.م

في مطلع التسعينات من القرن الفائت، يوم كان الرصاص يلعلع في سماء الوطن المغدور، والرشّاش الحاقد يحصد رؤوس الأبرياء، وتعيش الصحافة المغلوبة على أمرها بين مطرقة الإرهاب الأعمى وسندان سلطة ضاقت ذرعا بالرأي المخالف لها، شقّ المرحوم علي فضيل بكل شجاعة طريق الإعلام الحرّ والأصيل عبر أسبوعية “الشروق العربي” بإمكانات متواضعة، تدفعها عزيمة فولاذية وإيمان صادق بالرسالة، وما هي سوى 10 سنوات حتى وضعت مولودها المبارك “الشروق اليومي”، قبل أن تتربع على عرش الإعلام العربي بتأسيس أكبر مجمع صحفي مغاربي، توشّح بمجلاته وإصداراته وجرائده ومواقعه وقنواته العديدة ومبادراته الخيرية.

ليس الكمّ هو العلامة الفارقة في حصاد ثلاثة عقود من البناء التراكمي لصرح “الشروق” بكل أذرعها، بل خطّها التحريري المتميّز، ذلك التوجه المتفرّد الذي رسمه المرحوم علي فضيل لمؤسسته، وأسّس له ودافع عنه بكل صدق وبسالة، بل ودفع لأجله أثمانا باهظة عبر مراحل متوالية ومحطات متعاقبة، ذاق خلالها طعم العذاب والظلم والحرمان والحصار والتجويع والاعتقال والاختطاف وحتّى السجن، لكنّه ظل صامدا يرفض الانحناء أو المساومة على شرف المبادئ.

يذكر الجزائريون من جيل العشريّة السوداء كيف كانت “الشروق العربي” تختفي وراء الفنّ لتمرير رسائلها السياسيّة في زمن ملغّم، مؤازرةً الإرادة الشعبية ومناصرةً للمستضعفين ومنافحةً عن المصالحة الوطنية.

وفي عنفوان التيار الاستئصالي الجامح الذي عاث فسادًا في عشرية الدمار، وقفت “الشروق” برعاية مديرها العامّ سدّا منيعًا في وجه التغريب والعلمنة، تنافح عن الثوابت عارية الظهر إلاّ من سند قرائها الأوفياء، لتفوّت الفرصة التاريخية على المتربصين بقيم الشعب الجزائري، حين توهّموا أنه عهد الردّة الكبرى.

يوم صُدّت الأبواب في وجوه أنصار الهوية فلم يجدوا ملاذا يحتضن تحركاتهم ولا منبرا ينقل أصواتهم، كانت “الشروق” هي الحضن الدافئ والمنصة المتقدمة لهم في معركة الانتماء الحضاري.

سجل التاريخ لـ”الشروق” بقيادة علي فضيل أنها حاربت بقوّة تغريب المجتمع، وأجهضت رفقة المخلصين من أبناء الجزائر مخططات التفسيخ والجندرة والانحلال، يوم انتصبت شامخة ضدّ المساس بالأحكام الشرعية القطعية لقانون الأسرة في بداية حكم عبد العزيز بوتفليقة.

ستحفظ الأجيال أن “الشروق” بزعامة علي فضيل هي من تصدّت لتحريف المدرسة الجزائرية عن هويتها الأصيلة تحت شعارات الإصلاح المنحرف، يوم خططوا لإفراغها من روحها الوطنية وبُعدها الحضاريّ، ليجعلوا منها مصنعا ميكانيكيّا لتخريج الآلات البشرية التي لا لون ولا طعم ولا رائحة جزائرية لها!

في ذلك الزمن المجيد، وقفت “الشروق” بصرامة علي فضيل لتقول بصوت عال: لا لتغريب المدرسة، ستبقى جزائرية الهوية والانتماء، حيث واجهت بكل شرف مشروع فرنسة التعليم الذي حلمت به لجنة بن زاغو حتى سقط في الماء، وحمت تعاليم الإسلام والعربية والعلوم الشرعية والتاريخ في مقررات المدرسة ومناهجها من عبث المفسدين باسم الحداثة والعولمة والأممية.

ويوم أعادت نوريّة بن غبريط بجيشها الفرنسي العرمرم الكرّة الماكرة، لاستئناف المعركة القذرة، عادت “الشروق” إلى خطّ الصمود مرّة أخرى، وظلت تحارب مناورات تدمير الهويّة، حتى سقطت المؤامرة ومعها العصابة وأذنابها.

وحين تغاضى الإعلام عن نصرة خير الأنام، وبعضه تجاوب مع حملة الإساءة العالمية باحتشام، رمت “الشروق” بتوجيه علي فضيل كامل ثقلها في معركة غير متكافئة، لنصرة الحبيب المصطفى، لتسلّط الضوء على سيرة الإسلام والسلام، وتردّ المُعتدين على نحورهم.

ويوم وقع القدس الشريف وأقصاه المفدى محاصرا بين الاستيطان والتدنيس الصهيوني، وظلت غزة العزة تئنّ تحت وطأة الحصار الغاشم والخيانة العربيّة، استغاث الأشقاء في أرض الرباط يا مسلماه؟! فلبّى علي فضيل النداء، فاتحًا مؤسسة “الشروق” لتكون الحاضنة والمرفأ لانطلاق القوافل الإنسانيّة والمناصرين، فجعل منها مأوًى دائما لـ”رابطة القدس الجزائرية” في كل أعمالها، ودارًا مضيافة للجنة كسر الحصار عن غزة في كافة نشاطاتها، ثمّ رافقت بكل إمكاناتها الإعلامية والماديّة سفينة مرمرة الخالدة.

أمّا العلماء والدعاة والمشايخ والمصلحون من الذين طواهم النسيان، واندثرت أسماؤهم إلاّ بين قلة من النخبة، وهاب الناس ذكرهم لزمن طويل، حتى غفل عنهم أقرب الأقربين، فقد نفض علي فضيل عنهم الغبار في مؤسسة “الشروق”، فأحيا مناقبهم ورفع منازلهم وخلّد آثارهم إلى يوم الدين.

لا يسع المجال للإتيان على كافة مظاهر حضور “الشروق” ومواقفها في نصرة الهوية بأبعادها الوطنية والقومية والإنسانيّة، لكنها تبقى سجلا طويلا وحافلا وشاهدا على تاريخ الإعلام الحضاري الأصيل، يشهد بذلك أنصار المشروع الوطني من العلماء والنقابيين والمناضلين والطلبة وعموم القراء.

لم تكن تلك المواقف البطوليّة حروفًا تخطها الأقلام أو مقالات يدبجها الصحفيون أو عناوين جذابة تلفت إليها الأنظار أو مشاهد عابرة يلتقطها المصورون، بل كانت خيارا مبدئيّا واعيًا ومسؤولا، لم يكن أبدا تموقعًا مجانيّا بل اصطفافًا حضاريّا مكلفا، جلب لمؤسسة “الشروق” عداوة اللوبيات عبر كل المستويات.

ها قد شاء القدر أن يترجل الفارس المغوار في منتصف الطريق مثخن الجراح، وما في جسده الإعلامي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم من الغادرين والظالمين والمتسلطين، لكنه قاوم ببسالة حتّى سقط واقفًا محتسبًا، فلا نامت أعين الجبناء!

نمْ قرير العين يا أسد الهويّة وحارس القيم، فقد رحلت شريفًا بعدما أديت الأمانة كاملة، وشيدت عرينًا مهاب الجانب، سيظل قلعة صامدة في وجه التغريب، ومستعصية على السقوط مهما بلغ الكيد مداه، ستبقى قبلة للأحرار في كل مكان وزمان، ومنارة حضاريّة لكافة الأجيال.

رحل عليّ فضيل الإنسان والجسد، ولكنّ الفكرة والمشروع والرسالة والمؤسسة باقية ومحفوظة بين أيادٍ أمينة، ستنمو أكثر مثلما حلمت بها دومًا، وتظلّ على خطها الأصيل الذي رسمته بمداد الدم والعرق والقلم، لن تحيد ولن تنحرف، هو عهد الرجال يا عليّ… فعليك أزكى الرحمات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!