-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سلطان المعرفة!!

التهامي مجوري
  • 584
  • 0
سلطان المعرفة!!

عندما خلق الله الإنسان زوده بمفاتيح المعرفة، واعتبرها جزءا من كيانه في الوجود (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة31 ]، بحيث إذا ما تجاهل الإنسان تلك المفاتيح أو تخلى عنها، فإنه يفقد جزءا هاما من إنسانيته؛ لأن الإنسان في تركيبته الوظيفية عبارة عن: خواطر ومعرفة وحركة وعلاقات، وفي تركيبته النفسية عبارة عن: غريزة وروح وعقل وعاطفة، وبفقدانه للمعرفة، تَفْقِد باقي مكوناته الوظيفية والنفسية بوصلتها، فتكون الخواطر عبارة عن خيالات وأوهام، والحركة والعلاقات كحركات وعلاقات باقي الكائنات، من حيوانات وحشرات وحجر وشجر، على غير هدى وبصيرة. وكذلك عندما يتجاهل طلبات مكوناته النفسية، يصبح كالريشة في مهب الريح…

والمعرفة في حركياتها هي الإجابة عن تساؤلات الإنسان التي تطرح عليه كلها بسبب وبغير سبب، وقد حصرها الباحثون في الأسئلة التالية: من؟ متى؟ ماذا؟ أين؟ كيف؟ لماذا؟ وكم؟

فهي عند عامة البشر من ضرورات الفضول الذي نسميه في لغتنا العامية “التقرعيج”، وهي عند الإعلامي الكيفية الأكمل لصياغة الخبر، وهي عند الباحث تمثل مفاتيح المعرفة، أما عند المفكر والفيلسوف فلا يحتاج منها على أكثر من ” كيف؟ و لماذ؟”، أما كيف فمتعلقة بالموكونات المادية لكل موجود، كيف هو مركب؟ وكيف هو مشكل؟ وكيف هو الوصل بين أجزائه؟ وأما لماذا؟ فمتعلقة بتعليل الفعل والقول والحركة، لماذا قال؟ ولماذا فعل؟ ولماذا كان هذا الأمر بهذا الشكل؟ والتعليل بدوره له علاقة بالجانب الوظيفي للموجودات.

فمن؟ تساؤل متعلق بآخر، من هو؟ من يكون؟ ما مستواه؟ ما قيمته؟ ما موقعه في معادلة ما؟ أما تساؤل متى؟ فمتعلق بالزمن، ثواني ودقائق وساعات وأيام وشهور وسنوات وقرون…إلخ، وماذا؟ متعلق بحدث أو واقعة، ما الذي وقع وماذا جرى؟ أين؟ متعلق بالمكان المراد الكلام عنه، سواء كان فيه الحدث والواقعة أو يعود لزيد أو عمرو…إلخ، وكيف؟ متعلق بالكيفية التي وقع بسببها الأمر، والكيفية متعلقة بكل ما يحيط بالموضوع محل الدراسة أو التحليل أو الصياغة، أما لماذا؟ فمتعلق بالتعليل والبحث في الأسباب التي أدت بالأمر إلى كذا وكذا, وأخيرا كم؟ فمرتبط بالأعداد والمقاييس والأوزان والمسافات  وغيرها.

هذه التساؤلات يذكرها رجال الإعلام كمبادئ في صياغة الخبر كما أسلفنا؛ لأن الخبر ليكون كاملا لا بد من أن يجيب عن جميع هذه التساؤلات أو بعضها، ولكنها في الواقع ليست قاصدرة في غايتها على حسن صياغة الخبر عند الإعلامي، وإنما تمثل المدخل الطبيعي للفضول، بمعناه البسيط وهو “التقرعيج”، وبمعناها الدقيق والمركب والمعقد هي مفاتيح المعرفة كلها، حيث أن الإنسان البسيط يسوقه فضوله بالفطرة والطبيعة إلى استحضار هذه التساؤلات، وكذلك العالم والباحث في دراساته وتحاليله لا يمكنه الاستغناء عن هذه المفاتيح الضرورية لاكتساب المعرفة.

وبهذا الشمول للعملية المعرفية، تكون المعرفة أعم من العلم والفكر والفن والوعي؛ لأنها تمثل كل ذلك بطبيعىتها الشاملة لحركة الإنسان وغاياته ومآلات أفعاله، فهي تعمل على تنظيم وإشباع تلك المكونات كلها، إشباعا متوازنا بين الخواطر والمعرفة والحركة والعلاقات، وبين متطلبات الغريزة والروح، وحركية العقل والعاطفة.

ورغم أن المعرفة هي جزء من هذه المكونات، إلا أنها تمثل الجزء الذي يغطي الكل، فالخواطر إن لم تكن مبنية على معرفة تتحول إلى عبث، وكذلك بالنسبة للحركة والعلاقات، إذا لم تكن مبنية على معرفة، فإنها تتحول إلى فوضى بلا غايات ولا أهداف؛ لأن الحركة والعلاقات وظائف تحتاج مستوى معينا من المعرفة لتحقق المطلوب الذي يهدف إليه الإنسان، وكذلك بالنسبة للمكونات النفسية، فالغريزة والروح تهدفان لغايات وجودية تجمع بين الفعل الآني والحاجات الضرورية، والطموح الغائي المتمثل في مثل عليا ما، وكذلك العقل والعاطفة فمهمتهما كيف يتحقق المطلوب موصول الأطراف ببعضه البعض، متوازن المبادئ والوسائل والغايات.

وسلطان المعرفة يتمثل في ضرورة اكتسابها، وضرورة إعمالها، وإنزالها منزلتها من مكونات الإنسان جميعا بتوازن وتكامل وفاعلية مثمرة.

أما ضرورة إكتسابها، فتفرضها طبيعة حركة الإنسان في الوجود، فطلب الرزق يحتاج إلى معرفة، وتربية الأبناء تحتاج إلى معرفة، والعلاقات الإنسانية كلها تحتاج إلى معرفة، والتدين يحتاج إلى معرفة، ورفع المستوى والتطوير والإضافات، كل ذلك يحتاج إلى معرفة، ولذلك لا يمكن لإنسان أن يقوم بفعل إلا بالمعرفة قلت هذه المعرفة أو كثرت،رإذ ليس دون المعرفة إلا الجهل، والجهل أخو الجاهلية كما يقول بن نبي رحمه الله.

وذلك ليس على سبيل الإختيار، وإنما على سبيل الإلزام الذي لا محيد عنه، فعندما تتحرك الغريزة متطلعة لتحقيق الحاجة، لا يمكن أن تتحقق بتوازن وغايات مثمرة إلا بالمعرفة، سواء كانت هذه المعرفة محض تقليد أو ابتكار على غير مثال سابق، وكذلك تطلع الروح إلى المثل العليا تعلقا بالغيب، لا يمكن أن تتصور أو تحقق ما تريد إلا بالمعرفة؛ لأن مجرد الخواطر والتخيلات التي يمر بها الإنسان وهو يطمح ويتطلع تحتاج إلى قدر من المعرفة، الذي يدفع بالغريزة إلى تحقيق حاجاتها والروح إلى تطلعاتها السامية المرتبطة بالغيب أساسا.

وعندما نسلم بضرورة اكتساب المعرفة، فإننا نقر تلقائيا بضرورة إعمالها؛ لأن ما ينتجه الإنسان لا ينتجه ليخزنه، وإنما ينتجه ليُعْمِله في الواقع ويستهلكه، من ناحية أن التطور الذي يطمح إليه الإنسان يقتضي الفعل التراكمي المستمر، فينتج المعرفة ويعملها؛ لأن الشيء الذي لا يُعمل يَضْمُر.

وكما أن ما ينتجه الإنسان، إنما ينتجه ليعمله ويستهلكه، فإن المعرفة أيضا تكتسب وتنتج للإعمال وليس للتخزين والإكتناز والتكديس؛ لأن المعرفة في حد ذانها لا تقبل الاكتناز والتخزين؛ لأن الحاجة إليها قائمة باستمرار؛ بل إن الحركة البشرية تتطلب بطبيعتها وتبحث عن المعرفة لتهتدي بها وتستنير بنورها؛ بل إن رجل المعرفة بالأساس نشط وبطبيعته يبحث عن الإضافة دائما، وإضافاته تلك تصب تلقائيا في محاضنها التي تبحث عنها، وإذا لم تجد لها محاضن في أماكنها، فإنها تهاجر إلى حيث تبسط سلطانها، ولذلك نجد أن النخب التي لا تجد لها مكانا في بلدانها لتفجر فيها طاقاتها، فإنها تهجر بلدانها إلى بلدان أخرى تفجر فيها طاقاتها، حيث تجد المحاضن التي تليق بها.

فالناس عادة ينظرون إلى أن هناك شابا حل مشكلته عندما هجر بلاده،  وفي الحقيقة الأمر ليس كذلك، وإنما هو سلطان المعرفة الذي كان مقيَّدا في البلد التي كان فيها، استيقظ وبسط نفوذه في المكان الذي هاجر إليه.

إن للمعرفة سلطان، يهتدي بهديه من احترمه، ومن لم يحترمه سينتقم منه بهجره أو بحرمانه مما يريد الوصول إليه.

إن المعرفة في حياة الإنسان، من حيث هي لها ضرورة وجود، ولها سلطانها، ولكن هذا السلطان قد يكون عادلا كما قد يكون ظالما، مثل النظام السياسي في المجتمعات تماما، له وجود وله سلطان، بحيث لا يمكن تصور حياة الإنسان بلا معرفة عادلة كانت أو ظالمة، مثلما لا نتصور مجتمعا بلا نظام سياسي، عادلا كان أو ظالما.

وللتفريق بين المعرفة العادلة والمعرفة الظالمة، نعود إليه في مناسبة أخرى بحول الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!