-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سلم القيم.. والنسيج الثقافي

التهامي مجوري
  • 3430
  • 0
سلم القيم.. والنسيج الثقافي

يقال إن الثقافة هي ما يذكره الإنسان، عندما ينسى كل شيء، لارتباطها بالنفس البشرية، و أثرها في سلوك الجماعة من الناس، ولذلك كانت الانحرافات السلوكية الفردية والجماعية، ليست مجرد انحرافات معزولة، يمكن معالجتها بين عشية وضحاها، وإنما هي اهتزاز قيم، متبوعة بتكريس عفوي لهذا الاهتزاز، ليتحول إلى نسيج ثقافي، يربط بين أفراد المجتمع، فيتحول إلى سلوكات اجتماعية وسياسية واقتصادية، تعبر عن ذلك النسيج الثقافي، الذي قد يكون مرفوضا بالأقوال ومستنكرا في أوساط المجتمع، ولكن الأفعال تقره أو تشهد له وعليه؛ بل وتقرره أيضا.

ولتصوير نسيجنا الثقافي في الجزائر، ولا أخاله يختلف عن أغلب البلاد العربية والإسلامية، أستعير أربعة مشاهد منه، رأيتها بعيني خلال تنقلاتي اليومية هنا وهناك، وقد شاهدها غيري بلا شك، ولكن الذي قد اختلف فيه عن غيري، هو أنني عندما أقف على المشهد، أعود به في ذهني إلى أصوله التي انبثق عنها، أو الأسباب التي أدت إليه، وهي مشاهد متنوعة تصلح معبرا عن نسيج المجتمع الثقافي فيما احسب .

المشهد الأول له علاقة بالعلم وموقفنا منه

المشهد الثاني في علاقتنا بالعبادة

المشهد الثالث في علاقاتنا الاجتماعية فيما بيننا

المشهد الرابع في المؤسسة الرسمية والتنظيم وتعاملها مع الفئات المتصلة بها.

  /1ففي حي 2068 مسكن بباب الزوار، توجد به أوعية للقمامة كسائر الحياء، موزعة على أطراف الحي ووسطه، ليلقي فيها السكان فضلاتهم، ولكن في طرفين من أطرافه، أخرجوا تلك الأوعية، ووضعوها في جهتين، إحداهما على جدار جامعة باب الزوار، والثانية على جدار ثانوية الحي.

قد لا تبدو أن هناك المشكلة، قمامة إلى جانب جدار يأتي عمال النظافة ويحمنلوها وكفى..، ولكن عندما نضع هذا السلوك إلى جانب الأمثال الشعبية المتداولة، “اللي قرا قرا بكري”، و”العلماء واش دارو”، و”اللي يحوس يفهم يدخل الحبس”، وغير هذه المعاني، وإلى جانب إضرابات تكاد تحصد ثلثي السنة الدراسية في جميع أطوارها، ثم تختتم بالعتبة، التي تعفي التلاميذ من إتمام برامجهم الدراسية، واستكمال معارفهم، والأساتذة الذين يقصرون في أداء مهامهم بالمدارس، ويفتحون أقساما على الهامش “دروس التقوية”، فمن يدرس عندهم على الهامش “يعاونوه” في الصح.

 ويضاف إلى هذه المسألة، أن الذي فكَّر في وضع القمامة، بجوار الجامعة والثانوية، يستحيل أن يكون في رأسه، قداسة للجامعة أو الثانوية، ومن ثم لا قداسة عنده للعلم ولا للعلماء ولا للمعلمين. وهذه الظاهرة لم تكن في المجتمع؛ بل الذي كان رغم الفقر والجهل هو أن للعلم والعلماء مكانة لا تضاهيها مكانة، وللمدّرس هيبة وللمدرسة قداسة.. كل ذلك راح، بسبب اهتزاز القيم وتأثيرها على النسيج الثقافي للمجتمع.

 /2من قيم الإسلام أن المسجد للعبادة وهو بيت الله، فيه تلاوة القرآن وفيه ذكر الله وحلقات العلم. والسوق مرتع الشيطان، فيه اليمين الكاذبة، وفيه الغش، وفيه تطفيف الميزان…إلخ.

وعندما ينتقل السوق إلى أبواب المساجد، ماذا يعني ذلك؟ ذلك يعني أن قيم السوق التي هي شر بقاع الأرض، غزت المساجد، التي هي أفضل بقاعها، وينبني على ذلك الكثير من القيم المؤثرة على العبادة والمفسدة لها.

إن فكرة انتقال الأسواق إلى أبواب المساجد لم تكن من قبل. فقبل ثلاثين سنة في الجزائر مثلا لم تكن، وعندما طرأت كانت محصورة في السواك والعطر، ثم تطورت إلى الأقمصة والجوارب، وهي اليوم قد شملت الأحذية والفواكه والخضر، وهي مرشحة لأن تصبح سوقا كاملة.. تسمع فيها بإحدى أذنيك وأنت بداخل المسجد “البطاطا الخمسة بعشرة” وبالأذن الأخرى درس في الفقه أو موعظة أو تذكير.

إن أول إيذاء للمقبل على المسجد انه يرى “البطاط” والبرتقال أو غيرها، فتعجبه الأسعار، ولا يشتري بالطبع؛ لأنه داخلٌ إلى المسجد، ولكنه عندما يكبّر تكبيرة الإحرام مباشرة، يندم على أنه لم يشتري ، وسيتساءل، هل ستبقى؟ وربما سبقه الناس إليها.. إنها فرصة لا ينبغي أن تضيّع..، ولو انه اشترى قبل دخوله إلى المسجد لكان أفضل..، فيقضي نصف صلاته أو ثلثيها متسائلا؟ ولما تنقضي الصلاة سيذهب مسرعا، متخطيا الرقاب، أو مزاحما أو متشابكا مع من يعطِّله في سيره.. وهذه الظاهرة لا تكون مع واحد من الناس بطبيعة الحال؛ لأن بداخل المسجد مئات، ومعظمهم يغريه المشهد.

إن دوافع الذين جاءوا بالسوق إلى المسجد كثيرة جدا، منها البطالة ومنها رتابة السوق بسبب ارتفاع الأسعار، ومنها “فوضى تنظيم الأسواق”، كل ذلك يفرض على الناس إحداث مجالات أخرى لتسويق سلعهم.. ولكن عندما تكون قيم المسجد هي الغالبة، لا يمكن أن يفكر الإنسان في نصب خيمته التجارية أمام المسجد، وإذا حصل وان فعلها جشع، فإن رواد المسجد يمنعونه؛ لأن ذلك لا يليق بالمسجد. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم دعا من ناشد ضالته –برّح- في المسجد، وقال له “لا ردها الله عليك”، ماذا تراه يقول لهؤلاء الذين انشأوا مواقع أمام المساجد لتسويق سلعهم؟

 /3ما من إنسان حضر جنازة، إلا ولاحظ تلك المجموعات من الناس تتكتل هنا وهناك، سواء والجنازة تسير أو داخل المقبرة أو في دار الميت..، مجموعة من الأصدقاء لم يلتقوا منذ مدة يتبادلون القُبَل ويضحكون ويبتسمون ويتذاكرون أيامهم، وأخرى من رجال الأعمال يتبادلون المعلومات في الأسعار ورسوم الجمارك والمقالب التي تعرضوا لها في نشاطهم، وأناس لا رابط بينهم إلا حضور الجنازة، فيتشاكون ويتباكون، عن حرارة السوق وفساد أهله وضياع البلاد بسبب الخراب الذي أصابها.

على خلاف ما كان إلى عهد قريب، في حضور الجنازات، لتعزية أهل الميت، وعند اللقاء بين الناس، تراهم جميعا يتبادلون آثار ذلك الميت وأفعاله، ويدعون له بالرحمة، ويذكرون الصدف أو الكرامات التي كانت له في تلك الأيام، فيقول الواحد مثلا قبل أسبوع كان يوصيني على أبنائه، ويقول آخر، قبل يومين فقط، طاف بجميع الأهل وكأنه يودعهم، وكأنه يعلم انه سيموت ويقول آخر والله كان رجلا ولا كل الرجال، فتتعدد حسنات الرجل حتى يخيل للمرء أن هذا الميت لم تكن له سيئة في حياته، وكأني بالناس في ذلك قد تعلقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم “اذكروا محاسن موتاكم“.

إن الناس اليوم غيرهم بالأمس، من حيث أن همومهم غلبت مهامهم، في حين أن المرء مطالب، بأن يبقى الانشغال بالمهام أرقى عنده وأعلى من الانشغال بالهموم، وذلك ليس بالحجم؛ لأن حجم الهموم في بلادنا المتخلفة، كان وسيبقى ما بقينا على هذه الحال، الهموم أكبر من قدرات الناس وإمكانياتهم، وإنما بقوة القيم التي تجعل من المهام والاهتمامات، شيئا مستعليا عن الهموم مهما كان حجمها.

ولكن مثل هذه المناسبات ما كان لها أن تنحرف عن مسارها؛ لأنها فرصة لمن نسي الموت خلال أيامه، يتذكرها في مثل هذه المواطن، ويتفكر في المصير النهائي ويحرص على نفع الميت بالدعاء ونفع نفسه بالموعظة.

 /4الموظفون في القطاع الديني، من المفروض أن تكون لهم مواصفات معينة، وهم يؤدون مهامهم الإدارية، أي حتى وإن كانوا من الوظيف العمومي الذي لا يشترط إلا الكفاءة والمؤهلات العلمية، إلا أن القطاع له خصوصيات ينبغي أن تحترم وهي من الأمور الحساسة، وبسبب عدم مراعاتها وقع المحذور وفي تقديري وقع المحظور أيضا.

أسوق لكم ثلاثة نماذج واقعة في هذا القطاع.

النموذج الأول، أن مديرا للشؤون الدينية، يقول لإمام في مشادة كلامية بينهما “أنا نهبطلك السّروال”، أيليق هذا القول في مثل هذا القطاع؟.

النموذج الثاني، أن مسؤولا كبيرا، اشتكى له الأئمة في إحدى الولايات، أن مديرهم لا يصلي، فسألهم المسؤول، ألا أجوركم تصلكم في الوقت؟ قالوا بلى، فقال لهم، هذا هو المهم، أنا بعثته إليكم ليسيّر إدارتكم وليس للصلاة بكم.

النموذج الثالث، في إحدى مديريات الشؤون الدينية، كاتبة متبرجة تبرجا فاضحا..، والمديريات لمن لا يعرف، هي الإدارة المحلية للقطاع الديني في المناطق، فهي التي تستقبل الأئمة، وتقضي لهم حوائجهم، وتتابع أجورهم..إلخ، تصوروا معي إمام يدخل مكتب لقضاء مصلحة إدارية، فتستقبله فتاة بالـ”فيزو”، وصدرها يكاد ينفجر تدفقا، وإذا تحركت يمنة أو يسرة، إنما تتحرك كأنها تمثال، ملابسها تلبسها، وليست هي التي تلبس ملابسها…، تصوروا معي مشهد الإمام يستقبل في مثل هذا الجو..

لا شك أن إدارتنا الموقرة، لا تلزم أحدا، بسلوك معين أو بلباس معين، رغم أن وزارات السيادة، والماكن المحترمة، لا تسمح بالدخول إليها إلا بمواصفات معينة، فلا يدخل أحد مثلا وزارة الخارجية أو وزارة الدفاع او رئاسة الجمهورية أو حتى المديرية العامة لموبيليس، بـ”شورط” أو “برميدة” أو قميص..، ومع ذلك نتجاوز، وندعو إدارة الشؤون الدينية، إلى أن تحترم مشاعر الناس والأئمة بالخصوص؛ لأن منطق الأشياء، يقول لا يليق أن تستقبل الإمام امرأة بمثل تلك المواصفات، ومجاراة لاحترام الحريات نقول حتى إذا لم يكن حجابا شرعيا وإن كان هذا هو الأصل، فليكن لباسا محترما؛ لأن طبيعة القطاع تقتضي أن يحترم الدين ويوقر أهله.

هذه النماذج، النابعة عن نسيج ثقافة المجتمع السائد اليوم، وهي مخزنة في لا شعوره، بفعل الأيام، وإذا نبهت المرء بخطورة ذلك، فإنه ينتبه ولكن سرعان ما يعود لعاداته؛ لأن جوهر القضية في الموقف النفسي من القيم، من العلم ومن الدين ومن شعور الناس ومن دور الإدارة في كل ذلك.

إن أول ما يقع للإنسان –فردا وجماعة-، هو اهتزاز سلم القيم، فيضطرب أو يتخلخل أو ينكسر، فيصبح المرء لا يفرق بين الحسن والقبيح، والفاضل والمفضول، وإذا فرق بين بعض الأمور، لا يستطيع ترتيبها وفق سلم للأولويات.. ولما يبلغ اهتزاز سلم القيم مبلغه، يتحول إلى ثقافة عامة، يتبادلها الناس وكأنها هي الحقيقة التي لا محيد عنها، من غير شعور بأنها خطأ أو لا تليق، ثم تتحول هذه الثقافة إلى منهج تنبني عليه الأمور المستقبلية كلها

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!