الرأي

سمات الشخصية الجزائرية

لمباركية نوّار
  • 4562
  • 6
ح.م

لعلي لن أكون مخطئا، ولن أكون مهاجرا للصوّاب إن قلت إن مفهوم “الشخصية” هو من بين المفاهيم التي يحاصرها التعقيد من أكثر من جانب واحد إلى درجة أنه أصبح من بين مفاهيم العلوم الإنسانية التي يصعب الاقتراب منها والتسلل إلى ميادينها بلا عناء. وهو مفهوم تشتت استعماله بين علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة وعلم الأجناس… وله اشتباكات بالتاريخ، ويتقاطع مع علوم أخرى كعلم الأحياء “البيولوجيا”. ولهذا السبب التبست تعريفاته وأشكلت، وعسرت مقابلته بتعريف أكاديمي جامع مانع يحقق التوافق ويوثق الإجماع. ولا غرو، إذن، إن وجدنا من يفسر طريقة غيره في الحديث وأسلوبه في الكتابة إلى مكنونات شخصيته، وقد قيل: (الأسلوب هو الشخص)!.

جاء كتاب: “الشخصية الجزائرية: دراسة نفسية ميدانية” لينفضَّ ما يعتلج في الصدور من ألم الإهانات ويزيح غبار النسيان والتجاهل عن موضوع نهشته الانطباعات السطحية والأحكام المرتجلة البعيدة عن النزاهة والصرامة العلمية، والتي لا تترجم في صدق حالها. والكتاب المذكور هو إنجازٌ جماعي شارك فيه فريقٌ من الباحثين تحت إشراف الدكتور مصطفى عشوي. ولا أستبعد أن يكون موضوعه من اختيار المشرف نفسه.

والدكتور مصطفى عشوي، الذي أعرفه من خلال بعض كتاباته في الفضاء الأزرق، هو عالمٌ صاحب نظرة ثاقبة وجادّة ومتزنة، يملك براعة في انتقاء المواضيع وفي بسطها للمناقشة والإثراء بقلم ماهر لا يعرف العثار. ولا يبلغ آراءه إلا بلفظ مهذب وسطور ناعمة وهادئة ومخضبة بالأريحية؛ مما يعني أنه حسن الذوق ولطيف الحس وندي الخاطر. وكثيرا ما تجده واقفا أمام مشكلة استرعت انتباهه موقف الطبيب البارع الذي يدقق التشخيص، ويشير إلى الأسباب، ومن ثم يقترح العلاجات التى يراها نافعة بمستويات مختلفة لمحاصرة عللها ووأدها. ولا يتمخض عن فرائد أفكاره التي يفتن في عرضها، كما يفعل بائع الأزهار بباقاته التي يعرضها أمام الأعين حتى تتلقفها الأيدي، لا يتمخض عنها سوى الإعجاب الذي يرتاح له قراؤه، ولا يترددون في التعليق أو الاستزادة. وهو لا يضيق ذرعا بالردود حتى وإن وقف أصحابُها موقفا مخالفا من أقواله، وإنما يحاول أن يجعل من الاختلاف في الرأي ممرا إلى الوفاق والوئام والتلاقي من دون فرض أو إرغام أو عنجهية.

مضمون الكتاب عرضٌ مفصل لدراسة ميدانية علمية رائدة فازت بقصب السبق بجدارة؛ لأنها أول عمل أكاديمي يتناول سمات الشخصية الجزائرية بجانبيها الإيجابي والسلبي تناولاً ملتزما بقواعد البحث العلمي الرصين من صدق وموضوعية ووجاهة. ويعتبر هذا الجهد المشكور محاولة لكشف النقاب عن الشخصية الجزائرية التي عانت طويلا من الإهمال والامتهان ومن شتى أوصاف الاحتقار والانتقاص، ومن ظلم الإهانات والهزء التي ألصِقت بها وخاصة في فترة الاستعمار الفرنسي الذي كان يبحث عن كل المبررات للقضاء على هيبة وكرامة الشعب الجزائري وإذلاله وإبقائه في درجة أدنى حتى يسهل استعبادُه ومعاملته معاملة تفيض بالعداوة والكراهية والضغينة.

يستعرض الفصل الأول من الكتاب، ومن خلال اقتباسات صرح بها غلاة الاستعماريين الفرنسيين من أهل العلم، يستعرض تحيزهم الذي تحركه النعرة العرقية التمييزية الوقحة. ويذكر من هؤلاء طبيب الأعصاب الفرنسي أنطوان بورو الذي وصف الجزائريين أوصافا منحطة تقلل من آدميتهم، إذ قال عنهم أنهم “بدائيون” و”عدوانيون” و”متخلِّفون ذهنيا وحضاريا” (ص: 6). كما سمح أحد تلامذته لنفسه، وهو بيرسون، بأن ينعتهم في خبث بأبشع النعوت كالتهوّر والاندفاع المَرضي. وشبّه مستوياتهم الذهنية بالمستوي الذهني للزواحف (ص: 6 و7). وأخذت مادة الفصل الأول من الكتاب من مؤلف المؤرخ الفرنسي أوليفيي غرانميزون الحامل لعنوان: “الاستعمار الإبادة” (من وجهة نظري، أرى أن الترجمة إلى اللغة العربية الأكثر مطابقة لعنوان الكتاب الأخير هي: “الاستعمار يعني الإبادة”) الذي يذكر أن فرنسا جنّدت قواتها وأطباءها وخبراءها في حرب نفسية هوجاء وشاملة لتبرير احتلال الجزائر من بعد تشويه سمعة الجزائريين بالأكاذيب والتلفيقات. وعبَّأت حتى بعض أدبائها، ووجَّهت أقلامهم لخدمة هذه المعركة من أمثال فيكتور هيغو وغي دي موباسان؛ ففي كتاب هذا الأخير: “إلى بلاد الشمس” الذي أصدره في سنة 1881م، وسجل فيه مذكراته عن رحلة قادته إلى الجزائر، لم يتوان في الحط من قيمة الجزائريين والسخرية منهم ومن نمط عيشهم وعاداتهم. وفي وصفٍ تعميمي للشعب الجزائري لا استثناء فيه يقول: (… إنه شعبٌ غريب، طفولي، ظل بدائيا كما في بداية العصور. يمرّ بالأرض من دون أن يتعلق بها أو يستقر فيها. لا يملك بيوتا باستثناء أقمشة مشدودة على عصي، ولا يملك شيئا من الأشياء التي من دونها تبدوالحياة مستحيلة… فلا صناعة، ولا فنّ، ولا معرفة في أي مجال… ويستعمل في كل الأحوال أساليب غريبة تثير الدهشة) (ص: 11). ويضيف متهجما وساخرا وقادحا: (… إذ ليس هناك شعبٌ مشاغب يحمل الضغينة ومحبّ للنزاع أكثر من العرب) (ص: 11).

رصدت هذه الدراسة القيّمة أربعة أهداف رمت إلى بلوغها. ومن دون مفاضلة، فإن الهدف الرابع هو الهدف الذي أراه يُشبع فضول مختلف طبقات القراء لما نراعي اختلاف المستويات. وقد نصّ هذا الهدف على رسم ملمح حقيقي أولي للشخصية الجزائرية من خلال تحديد أهم سماتها الإيجابية والسلبية. وضمنيا، فإن هذا الهدف نفسه يستبطن غرضا مخفيا يتمثل في تخليص الشخصية الجزائرية من كل صنوف التشويهات المغرضة التي ألصقت بها ظلما وبهتانا.

لم تكتف الدراسة بتحديد المناطق التي كانت ميادين لإجرائها، وإنما عرَّفت بكل منطقة تعريفا جغرافيا وتاريخيا وسكانيا، وتعدَّته للوقوف على التنوعات في أكثر من مجال. وتوسعت أحيانا لتشمل عناصر أخرى اجتماعية وثقافية مرتبطة بالعادات والتقاليد والفنون ومظاهر الثقافة المحلية والتراث المادي والإرث المعنوي، كما جرى مع ولاية تمنراست. وفي المقابل، لم تنل ولاية تلمسان حظا تعريفيا موسعا ومستفيضا. وقد يعود هذا التباين إلى تباين درجات تهيؤ محرري فقرات الدراسة الذين توزعوا بين مسهب أطلق العنان لقلمه وميال إلى الاقتضاب والاختصار لم يُجهد نفسه في الإطالة والزيادة والإغناء، وإنما اكتفى بإصابة النزر القليل المعروف والمتداول.

خُصص الفصل الثالث من الكتاب لعرض الإطار النظري للدراسة. وجرى فيه التركيز على بعض تعريفات مفهوم الشخصية ومناقشتها وإظهار فجواتها. كما عُرضت فيه أهم النظريات الدائرة حول سمات الشخصية والقائلين بها مع تذييلها بالانتقادات التي تلاحقها، وتبرز نقائصها وعوَرها. ومثلما جرت الإشارة إلى نظرية العالم الإيطالي لومبروزو التي استند في بنائها إلى ملاحظات مورفولوجية تنبني على ملامح الوجه وسحناته وتموضع وشكل أعضائه، حصل التطرق إلى نظرية الطبيب الأمريكي ويليام شيلون التي استنبطها من إقامة علاقات بين أبعاد أجزاء الجسم وأنواع الأمزجة. ومهَّدت هذه التلميحات للوصول إلى نظرية عالم النفس الأمريكي جوردون ألبورت الذي رمى بثقل اهتماماته العلمية في ميدان علم النفس الاجتماعي.

أطلق العالم جوردون ألبورت على نظريته المتعلقة بالشخصية اسم: “نظرية السمات”، وأشبعها شرحا وتفصيلا ما جعلها تلقى قبولا ورواجا. وهي النظرية التي اعتمدها فريق البحث قاعدة لدراسة الشخصية الجزائرية؛ لأنها تساعد على فهم الأنماط السلوكية وتحدد مدى اقترانها بالصفات الجسمية أوالذهنية أوالوجدانية. ووظفوا قائمة السمات الخمس التي وضعها جون ودوناهو وكينت سنة 1991م، وهي: الانبساطية والطيبة وحيوية الضمير والعصابية والتفتُّح. وانطلاقا منها أعدت قائمة ضمت خمسا وأربعين عبارة قصيرة قدِّمت للمستجوبين لتقويمها.

لم تفوّت الدراسة التنبيه إلى بعض العوامل التاريخية التي أثرت على تشكيل الشخصية الجزائرية وعجنها، وهو ما عبرت عنه الفقرة الموالية: (من يقرأ تاريخ الجزائر سيلاحظ وقوع حوادث وكوارث عديدة لا شك أنها أثرت في بنية الشخصية الجزائرية عبر التاريخ. ولا يمكننا في هذه الدراسة تتبع كل هذه الحوادث والأحداث والكوارث الطبيعية والإنسانية وتأثيرها في الشخصية الجزائرية) (ص: 104). واكتفى الباحثون بذكر حدثين بالغين تركا ندوبا منقوشة في صفحة الشخصية الجزائرية، حيث ذكروا قولهم: (سنقتصر في هذه الدراسة على سرد حدثين تاريخيين في العصر الحديث أثّرا في “اللاوعي الجمعي” للفرد والمجتمع الجزائري المعاصر. وليس من المبالغة القول إن هذين الحدثين قد ساهما، ولو بشكل جزئي، في تشكيل بعض سمات الشخصية الجزائرية الحالية. ويتمثل هذان الحدثان في الاستعمار الفرنسي الذي دمر العباد والبلاد خلال عدوان وإرهاب داما قرنا واثنتين وثلاثين سنة من جهة. وفي السنوات العشر “العشرية السوداء” التي أدمت الجزائريين، وهزّت أعماق وجدانهم “1992 ـ 2002) (ص: 104 ـ 105).

بلغت العينة المستجوَبة في هذه الدراسة من خلال الاستبيان المعدّ لاستطلاع المعلومات 6033 فرد توزعوا على عشر ولايات شملت كل جهات ومناطق القطر الجزائري ما يعني أن العينة عشوائية جغرافيا. والولايات المعنية هي: الجزائر العاصمة (بلديتا بوزريعة والرحمانية) وبجاية (بلديتا أدكار وتمزريت) وقسنطينة (بلديتا عين عبيد وزيروت يوسف) وباتنة (بلديتا فسديس ومنعة) والمسيلة (بلديتا المسيلة وعين الملح) وعين الدفلى (بلديتا خميس مليانة والعامرة) وسيدي بلعباس وتلمسان وورقلة وتمنراست.
يتبع

مقالات ذات صلة