-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
جديد الفيلسوف وعالم السياسة الكاميروني، أشيل مبمبي:

“سياسات العداوة”… أو نتائج الاستعمار في العالم المعاصر

الشروق
  • 867
  • 0
“سياسات العداوة”… أو نتائج الاستعمار في العالم المعاصر

يستأنف الفيلسوف وعالم السياسة الكاميروني، أشيل مبمبي، في كتابه “سياسات العداوة” التي نقله إلى العربية الباحث الجزائري، ميلود طواهري، مواضيع ناقشها في أعماله الرئيسية السابقة، حيث شخّص، في “الجسد الليلي للديمقراطية”، وجود – عُصِية – عنف أصلي ثم وظيفي لا يمكن للديمقراطيات التخلص منه. إنه عنف الاستعمار والرق، نظم أو أنساق اقترنت بظهور الديمقراطيات الحديثة ثم نشاطها، ليس هذا فحسب، بل هو أيضاً عنف الظروف الهيكلية للنظام الديمقراطي.

يكون هذا التشخيص، الذي يمكن أن يطرح بفضل جينيالوجيا التهيئة العالمية الحالية التي تدعو إلى استصغار الآخر، أكثر ضرورة خاصة وأنّ الديمقراطية سعت إلى إنتاج خطاب أسطوري حول تماسكها الفسيولوجي. فهي تعيش، وتقول عن نفسها والموت قوى خارجية، وحيث أخيراً لا يوجد من حل آخر، لكي تحافظ الحياة الديمقراطية على بقائها، إنها جسد سياسي استخرج منه العنف الافتتاحي، وحيث تكون الأمزجة متوازنة وهادئة، وحيث أصبحت الوحشية إلا بتر العضو الفاسد حامل “الشر” المتمثل في المسلمين والزنوج، والأجانب، والإرهابيين (أو يفترض أنهم كذلك) واليهود، والمهاجرين، واللاجئين، وكل الغرقى. من هنا نتفهم لماذا تستنفد الديمقراطية اليوم طاقتها في دك عداوة كاملة، غير مشروطة، حيث يجب عليها إنتاج الأعداء، وتعيينهم، وإبادتهم من أجل ديمومتها.

يظهر من قراءة هذا الكتاب الصادر عن داري إبن النديم الجزائرية وروافد القافية ببيروت، أن الرهان بالنسبة للمفكر لأشيل مبمبي ليس هنا، منذ البداية، رهان الـمحلل الدقيق الذي يكتفي بقيادة الفاعل الديمقراطي، عبر سنوات من الاستكشاف الداخلي، لصياغة مفاهيم معاناته بنفسه، وتحمّل وزن تاريخه من أجل التعامل معه في الوقت الراهن، ولما كانت مسألة “العودة إلى الحياة التي تم التخلي عنها ووضعها في أيادي سلطات الموت”، فإنّ التشخيص سيكون أيضاً صدمة كهربية. لقد جنّت الديمقراطيات فصار يستحيل “التنبؤ بتصرفها، قوى فوضوية بدون رموز ولا معنى ولا مصير”، وعليه سيكون العمل الصبور من أجل التحرر، في هذه الظروف، “تحدياً للحس السليم”، على حد تعبير فرانز فانون، الوارد في الرسالة التي وجهها إلى الوزير المقيم، روبرت لاكوست، عن ممارسة الطب العقلي إبان الفترة الاستعماري في الجزائر.

بالفعل وتحت رعاية فانون و”صيدليته” يتموقع مبيمبي. بداية هي عيادة فانون الإكلينيكية التي ستلهم تلك الصفحات الجميلة الواردة في الفصل الثالث، حيث ضمّنها عرضاً عن أمراض المستعمَر والمستوطن التي أنتجتها البنية البيواقتصادية الكولونيالية وكذلك الحركة المناهضة لها، وفيها يستكشف موضوع العنصرية، عصاباً أو “انحرافاً نفسياً” كانت، في شكلين رئيسيين، ألا وهما العنصرية البيونفسية، والعنصرية الثقافية، من خلال الجروح التي تحدثها. وبما أنّ النظام الكولونيالي، كما هو مبيّن في الفصل الأول، يوجد في صميم النظام الديمقراطي، فإنّ الفاعل الديمقراطي نفسه، العنصري أو الـمعرقن، هو من أصبح مشوهاً- إنها الفكرة نفسها، ولكن أيضاً ممارسة الاعتراف بالآخر، الأخلاقية والسياسية، والتمثل الذاتي، التي غدت مستحيلة بفعل البناء العنصري للأجساد وتفاعلاتها. ومن ثم وحتى لا يكون عمل فك الاستلاب الذي ينفّذ أولاً على الأجساد (الصدمات الكهربائية) ثم على العقول (إعادة بناء الشخصية) من أجل “إنزال الفرد منزلته” من باب العبث، يجب مواصلة ما أنجز فانون وتصفية الاستعمار، أي مـحو عرقنة الأجساد وروابطها التي تصنع العالم معاً.

و”الانشغال بالإنسان” لا يغادر فانون – وعلى خطاه، يتبنى أشيل مبيمبي تتمة لذلك العمل، موقف الشاهد، تدفعه في ذلك الرعاية أو الاهتمام بنا نحن جميعاً المستضعفون، وتشجعه حركات التنقل ووجهات النظر التي أتاحها له العيش بين ثلاث قارات. شأنه شأن فانون، يدعونا مبيمبي إلى إدراك مكان القطيعة والتعارض الـذي أنشئ بين الصديق والعدو في كل واحد منا. استتباعاً لما تقدم، لا يرى الكاتب من وسيلة كفيلة بدرء سياسات العداوة، غير “لغة تحفر باستمرار، وتثقب وتجوف مثل البريمة، التي تعرف كيف تتحوّل إلى قذيفة”، فالإنسانية، المتأثرة والعرضة للموت، هي في خلق دائم بالكلام والإيماءة، وعلى نشر هذا “التجلي” يحرضنا أشيل مبيمبي.

إن سياسات العداوة، تقوم على “تمييز الصديق عن العدو”: إنها الرؤية التي تبناها كارل شميت، الفيلسوف المناهض للديمقراطية، والتي يراها أشيل مبيمبي تنتصر اليوم حتى داخل الديمقراطيات الليبرالية.

يعترف الكاتب أنّ الحرب باعتبار أنها “سرّ عصرنا”، تشكّل موضوعاً شائكاً. لكن في التوتر، يذهب المؤرخ والفيلسوف الـكاميرونـي، الذي يعتبر أكثر مفكري ما بعد الكولونيالية إبداعاً، إلى تحليل الفوضى السائدة في العالم، والخروج عن الديمقراطية أو انقلابها إلى دكتاتورية “تحت لباس الحالة الاستثنائية”، مننتجة بذلك مجتمع العداوة حيث أصبح العدو، أكثر من أي وقت مضى، هو الهاجس العظيم الذي يجتاح الكوكب، ومعه، الانفصال عن كل ما هو ليس منا. لكن في المقابل يستولي قلق الفناء على الأقوياء، فيغذي هذا الهاجس الذي قد يتجسد اليوم، كما بالأمس، في توهم الإبادة.

لعل الديمقراطيات الحديثة لم تكن أبداً أكثر من ذلك: دوائر أشباه، مندرجة في شكل الدولة القطرية. ذلك لأنّ النظام الديمقراطي، كما يؤكد أشيل مبيمبي من خلال استئناف أطروحاته الواردة في كتابه الموسوم “نقد العقل الزنجي”، في الـمصفوفة التاريخية الغربية الحديثة، فيه لبس لما اصطحبه من نظام “المزرعة” (الرق) ونظام المستعمرة (الإمبريالية)، واستتباعاً يوجد في أعماق الديمقراطيات الغربية، في “ودائعها المريرة”، عدد كبير من الناس “غير الأشباه” من الداخل يجوز ممارسة العنف السياسي ضدهم رغبة في بناء “مجتمع من دون غرباء”.

هل هو الشيطان الاستعماري المكبوت المتجدد في جميع أنحاء العالم عبر تعاظم السياج بين نحن الأصليين، و”الآخرين”، فائضين عن الحاجة، الذين سرعان ما يتحوّلون إلى معادين؟ تلك هي واحدة من فرضيات المؤلف. يلتف النص الذي بين يديك المتشظي، الوفير، والمحموم، حول كتابات طبيب الأمراض العقلية، فرانز فانون الذي كان المفكر الأكثر خصوبة في النضال ضد الاستعمار من خلال الرعاية الدائمة التي كان يسديها للمتضررين نفسياً، من المستعمَرين، ليس هذا فحسب بل أيضاً، وأشيل مبيمبي يؤكد، من بين أفراد المستعمِر، الذي سكنه الخوف من ذلك الذي استضعف. ذلك هو، عند فانون، مرض العنصرية عينه. ومن هنا كانت الرعاية هي ما يسمح بالملاقاة، وأن يعرض كل واحد على الآخر. هذا جوهر “علاقة الرعاية” الذي يمكن أن ينصر “سياسة الحياة” ضد “سياسة التدمير” العاملة حالياً في دورة الجريمة الحقودة، والاستياء والانتقام.
يدعو أشيل مبمبي الجميع في هذا الكتاب، الذي توزعه في الجزائر مكتبات ناجي ميغا بوكستور، إلى الترفع عن الانتماء لأي دولة، ولأي أصل، وغيرهما، إذ لم يعد كل هذا يصنع إلا هويات مخصّصة وقوانين تعسفية تعزل لا غير، بذلك ستُبنى البشرية المستقبلية مع “عابري سبيل”، أحرار في تنقلهم.

في كتابه الأخير، الذي بين يديك “سياسات العداوة”، يتعمق أشيل مبيمبي في الديناميات البشرية-العلائقية السائدة في المجتمع المعاصر، والتي تتميز بما يعرِّفه على أنه “سباق نحو الانفصال وفك الروابط”. من خلال المواصلة في النهج الذي اتبعه في مؤلفاته السابقة حيث يتساءل عن نتائج الاستعمار في العالم المعاصر، يحمل هذا العمل في طيّه دراسة نقدية للظواهر التي لا تزال موضوع الساعة، ومناقشة مكانها ووضعها في سياسة الرعب والكراهية التي يدكها المجتمع الرأسمالي. والواقع أن انشغال الكاتب لا يقتصر على العنصرية فحسب، ولكنه يكرس اهتمامه لأقليات أخرى من عرب وغيرهم الذين هم جميعاً ضحايا العنصرية، رغم طبيعتهم ومكانتهم المختلفة، أنهم نتاج صنع الإنسان.

س.ع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!