سيد قطب يحكم من قبره؟!
عاد الحديث مجددا وبقوة حول شخصية وأفكار الشهيد سيد قطب رحمه الله بعد أحداث 11 سبتمبر التي تبناها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وتحرّكت عملية الربط بين إيديولوجية التنظيم وعلاقتها بفكر سيد قطب الذي يعتبر عند خصومه منظّر وزعيم التيار الراديكالي للإسلام السياسي في العصر الحديث.
وبعد مرور نحو عشر سنوات من هذا الحادث الدولي الذي كانت له تداعيات مدمرة على العالم العربي والإسلامي وعلى الإسلام نفسه، مرة أخرى تم استدعاء سيد قطب وذلك خلال ما شهدته المنطقة العربية من حراك أطلق عليه ما يسمى “بالربيع العربي” الذي جعل من أكبر تنظيم إسلامي وهو جماعة الإخوان المسلمين يصلون إلى السلطة بعد قيام ثورة شعبية أطاحت بالرئيس حسني مبارك، ولكن ليس من السهولة بمكان الإطاحة بالنظام الذي تبث أركانه الدولة العميقة، والساهرون على هذا النظام من سياسيين فاسدين وأمنيين منتفعين وإعلاميين وفنانين مستأجرين وأشباه المثقفين، فتحوا دفاتر قيادة الإخوان لربطها بمرجعية سيد قطب المتطرفة حسب زعمهم لتخويف الجماهير منها وإيجاد الحجج والمبررات لمحاربتها والانقلاب عليها، وفي ظل هذا الجو المحموم خرج الكاتب الصحفي الذي تم تعيينه وزيرا للثقافة في عهد السيسي حلمي النمنم ليقول حينها وكأنه يحذّر ويحرّض على التحرك: “بتولي محمد مرسي الرئاسة في جمهورية مصر فإن سيد قطب يحكم من قبره..” وذلك لأن مرسي وقبل توليه السلطة التي عزل منها سبق وأن قال “لقد تعرفت على الإسلام عن طريق سيد قطب من خلال معالم في الطريق”.
لقد نجحت الخطة وبعد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، أصدر حلمي لنمنم سنة 2014 كتابه التشهيري: “سيد قطب..سيرة تحوّلات”، وقد استهل كتابه بنبرة من التأسف الشديد بالقول إن سيد قطب فرض نفسه علينا مرة أخرى في شخص محمد مرسي الذي كان قطبيا حتى النخاع، ويرجع حلمي النمنم عناد مرسي كما يدعي برفضه لمطالب المعارضة السياسية وللشارع المصري إلى عقيدة الاستعلاء التي أوصاهم بها سيد قطب حتى وإن أدت بها إلى الهاوية، ولكن هنا يحاول النمنم مغالطتنا ويزيّف الحقيقة التي سجلتها وسائل الإعلام وهو أن مرسي أبدى استجابة لطلبات المعارضة في تجمع متلفز شهده كل العالم ولكن نية وإرادة الانقلاب كانت قائمة ولم يترك لمرسي أي فرصة للنجاة، لأن وصوله للسلطة كما يرى النمنم كان بمؤامرة دولية وإقليمية وحتى محلية على الشعب المصري.
إن المعالم الكبرى والأساسية لكتاب حلمي النمنم لخصها في مقدمة إصداره بالعبارات التالية: “أنا منشغل بسيد قطب كله، تحوّلاته وتقلباته في حياته، كان ناقدا أدبيا واعدا ثم انقلب على النقد، وكان ماسونيا متحمسا في المحفل الماسوني الأكبر ويفخر بماسونيته ثم يصبح إسلاميا تكفيريا ورافضا للآخرين على طول الخط، وكان يكره حسن البنا ويمقته، حتى أطلق عليه حسن الصباح زعيم الحشاشين، ثم يعود ليصفه بالعبقري، وكان مفتونا بطه حسين ويريد أن يصير مثله ثم ينقلب عليه ويتهمه بأنه تلميذ المستشرقين الكارهين للإسلام..”، والقصد من وراء حصر هذه القضايا في مسيرة سيد قطب وعرضها على أنها متناقضات وقع فيها سيد قطب من النقيض إلى النقيض وبشكل حاد، هي من أجل تشويه صورته وعلى أنه شخصية غير سوية فكيف يتخذ قدوة ومرجعا ومن أن من تأثروا به واتبعوه هم كذلك وبالتالي واجب محاربتهم والتخلص منهم لأنهم “قطبيون” لا يستحقون حتى الحياة، ولم يكتف حلمي النمنم بهذا النقد الحاد الذي تغلب عليه رائحة السياسة على موضوعية البحث ليطعن في مؤهلات سيد قطب العلمية والفكرية وذلك حينما يقول عنه بأن تحصيله العلمي محدود وضحل الثقافة ومن أنه كان لا يقرأ ولا يكتب سوى باللغة العربية ولص يحترف سرقة النصوص وينقلها إلى كتاباته دون أن ينسبها لأصحابها وللمراجع التي أخذ منها ومن أن كتاباته في الأدب والنقد الأدبي هي دون المستوى المطلوب وليس حقيقيا أنه هو من اكتشف الأديب الروائي نجيب محفوظ وقدمه للناس. وحول مرجعيته المذهبية حاول النمنم أن يبرهن وهو ينقل نصوصا جاءت في كتاب سيد قطب “العدالة الاجتماعية في الإسلام” على أنه شيعي على الطريقة الفارسية، وهذا حينما يقول بأن الخلافة لما آلت لأبي بكر الصديق فإنها تخطت علي بن أبي طالب ومن أنها لما جاءت لعثمان بن عفان كانت أكبر صدفة في التاريخ الإسلامي ومن الإسلام توقف عن الوجود لما تولى معاوية الخلافة التي تحوّلت إلى ملك عضوض …، هذا غيض من فيض الحمم التي ألقى بها النمنم على رجل ضاق الويل في حياته المرة التي انتهت إلى حبل المشنقة ولكن السؤال هل سيد قطب هو الوحيد الذي قدّم هذه القراءة حول الخلافة الإسلامية وطريقة تسييرها من طرف الأسرة الأموية، والجواب هو أن عديد المفكرين والمؤرخين ذهبوا هذا المذهب ولم يتهموا بالتشيّع، ولكن إصرار حلمي النمنم على موقفه هو أن سيد قطب قد جعل الحاكمية ركنا من أركان الإيمان في الإسلام مثل ركن الإيمان بالإمامة عند الشيعة، ولكن وأمام هذا النقد الجارف والجارح لسيد قطب أين نضع مقولة الشيخ الأديب علي الطنطاوي التي جاءت منصفة في حق سيد قطب حيث يقول: “كتاب التصوير الفني في القرآن فتح من الله جديد وسيد قطب وقع على كنز من كنوز القرآن، كأن الله ادخره له فلم يعط مفتاحه لأحد من قبله حتى جاء هو ففتحه….”، فمن يجرؤ ويزايد على الشيخ الأديب علي طنطاوي رحمه الله وهو لا علاقة له بالإخوان، بل وهذا أحد كبار علماء السلفية مفتي السعودية يجيب على سؤال حول علاقة سيد قطب بوحدة الوجود التي تناولها في الظلال، فيوضح: “لا بد من القول بأن الكتاب كتبه من منطلق الحمية والغيرة على الإسلام، وقد يعذر في الأخطاء التي وقع فيها ولا يمكن أن ننكر أنه صاحب ثقافة عالية وعباراته يفهم منها خطأ لأن أسلوبه فوق أسلوب من يقرأ..”، والسؤال مرة أخرى هل أساء خصوم وأعداء سيد قطب قراءته أم تعمدوا ذلك لغاية في نفوسهم الأمارة بالسوء كما فعل الكاتب حلمي النمنم في سيرة تحوّلات التي خرج فيها عن حدود الأدب الإنساني حينما اتهم زورا وبهتانا سيد قطب بالشذوذ الجنسي، مستدلا بعدم ارتباطه بأي امرأة ومن أنه كان ذميم الخلقة، وهذه مسائل -كما ذهب يحلل- عملت له مشاكل وعقدة نفسية أثرت في حياته التي لم تكن طبيعية؟؟
الجواب على هذا السؤال لا يتطلب كبير عناء، فحلمي النمنم ضد الإسلام السياسي ولا يريد لظاهرة سيد قطب أن تتكرر لدرجة أنه قال بأن مصر ليست كما يتردد بلد متدين بالفطرة، وإنما هي بلد علماني بالفطرة ولكن هل الثقافة العلمانية تكون بهذا الكم الهائل من الحقد والغلو في التجريح في حق شخص نختلف معه؟ إننا نريد علمانية معتدلة كما نريد إسلاما وسطيا معتدلا كذلك لتحقيق التعايش وحياة مشتركة. ورحم الله سيد قطب.