-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شبهاتٌ حول علاقة السلفية الإسلامية بالسلفية اليهودية

محمد بوالروايح
  • 2595
  • 0
شبهاتٌ حول علاقة السلفية الإسلامية بالسلفية اليهودية

لا حرج على من لم يطّلع على تاريخ الفرق اليهودية حينما يبدو له العنوان غريبا ومفخخا ومستفزا فيُفرغ ما في جعبته من أنواع السباب على من يأتي بهذا الأمر العجاب! وقد رُمتُ امتحان عقول بعض إخواننا السلفيين من خلال العنوان وكنت آمل أن أجد بينهم رجلا رشيدا، عارفا بتاريخ الفرق اليهودية، ليس لإتّباعها وإنما لتحذير المسلمين منها، وهنا أذكر عبارة كنت أقولها لطلبتي في قسم مقارنة الأديان الذين درّستهم اليهودية وفِرقها: “نحن ندرس اليهودية لا لنعتنقها بل لنلوي عنقها”.
إن نسبتنا للسلف رضوان الله عليهم تقتضي منا أن نعرف عقائد خصومنا الأبديين ومخططاتهم لكي نعصم أمتنا من شرهم وكيدهم. كان معاذ بن جبل رضي الله عنه كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “أعلم الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل”، كما كان رضي اله عنه على دراية واسعة بالتوراة، ولهذا السبب اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون رسوله إلى أهل اليمن الذين كانوا أهل كتاب ولا يصلح لإقناعهم بالإسلام وحقيقة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم إلا من هم في علمه وفقهه.
هناك حادثة دوّنتها كتب السيرة النبوية وذكرها من كتبوا عن حياة الصحابة رضوان الله عليهم مفادها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نسخة من التوراة في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فغضب حتى بدا ذلك على محياه ثم قال له: “يا عمر، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا إتِّباعي”. لم يستخلص بعض محدودي النظر من هذه الحادثة إلا فائدة واحدة وهي تحريم دراسة العقائد اليهودية وما شاكلها لأنها عقائد محرفة، ونحن لا نختلف معهم في ذلك ولا نختلف معهم في أن الإسلام هو الدين الخاتم الذي حوت شريعتُه جميع ما اشتملت عليه الشرائع التي سبقتها ووضعت منها وزادت عليها، هناك مبرر للتصرف النبوي مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم تستطع عقول بعض إخواننا السلفيين إدراكه وهو أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا في ذلك الوقت حديثي عهد بالإسلام فخشي رسول الله عليهم من الافتنان باليهود فكان منه هذا التحذير الشديد، وهذه طريقة حكيمة يلجأ إليها حتى على مستوى السلوكات البشرية العادية كل قائد حريص على سلامة جماعته وسلامة نهجها.
لقد درسنا اليهودية ودرسناها لعقود من الزمن فلم يزدنا ذلك إلا تمسكا بالإسلام وحبا للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقد وجدنا في مقارنة الأديان وسيلة ناجعة لنسف “الحلم التوراتي” وإفشال كل المخططات التي تستهدف الإسلام، وعلم مقارنة الأديان اليوم هو العلم الأكثر طلبا في العالم كله لما له من أهمية للتمييز بين المنظومات الدينية المختلفة في التاريخ المسطور والمنظور.
من المسلّمات التي تمثل -إن صح التعبير- المعلوم من مقارنة الأديان بالضرورة، معرفة تاريخ وعقائد وطقوس طائفة “الحيريديم”، وهي طائفة يهودية تتمسك بحرْفية الأحكام التوراتية والتلمودية وترفض أي إعمالٍ للعقل في هذه الجانب، و”الحيريديم” أيضا هم الطائفة الأكثر بُعدا عن السياسة لأنها تعتقد أن السياسة مفسدة لليهودي وحجر عثرة أمام إكمال مسيرة “الأسلاف”. والحريديم أيضا هم الطائفة الأكثر راديكالية بين الطوائف اليهودية لأنها تعتقد بأنها وارثة الشريعة اليهودية نقية كما جاء بها موسى وكما تلقاها ونقلها الأحبارُ اليهود. ولهذه المواصفات أطلق على طائفة “الحيريديم” اسم “السلفيون اليهود” وهم بتعبير علماء الفرق اليهودية “اليهود الأرثوذكس” سُمّوا كذلك لبقائهم على العهد وعلى الطريقة التي كان عليها أسلافهم. ومعروفٌ من معاني كلمة “أرثوذكس” أنها تعني الطريق القويم، وهي صفة أطلقت على اليهود الأرثوذكس والنصارى الأرثوذكس، ولهاتين الطائفتين “المحافظتين” اليهودية والنصرانية اختلافاتٌ عميقة مع باقي الطوائف الأخرى تصل إلى حد رميها بالهرطقة والخروج عن الملة وهو ما يقابل مصطلح الخروج عن الملة سلوكا فقط أو سلوكا واعتقادا الذي تسرب للأسف الشديد في مرحلة من مراحل تاريخنا إلى القاموس العقدي الإسلامي.
ومما يشد الانتباه هنا هو محاولة بعض المفكرين الحداثيين من بني جلدتنا تهويدَ الإسلام والزعم بأنه صورة مستنسَخة عن اليهودية، ومحاولتهم أيضا الربط بين “الحيريديم” في المجتمع اليهودي وبين “السلفيين” في المجتمع الإسلامي، ويبررون ذلك بأن كثيرا من الطقوس وطرائق التعامل مع النصوص قد انتقلت من “الحيريديم” اليهود إلى السلفيين المسلمين سواء ما تعلق بنمط حياتهم ونمط تدينهم أو ما تعلق بنمط تفكيرهم؛ فقد زعموا أن البرقع عادة يهودية انتقلت من سلفيي “الحيريديم” إلى “سلفيي” المسلمين، كما زعموا أن عقيدة “الفرقة الناجية” إنما هي عقيدة حيريديمية انتقلت إلى السلفيين المسلمين، كما زعموا أن هناك تشابها بين الحيريديم والسلفيين في طريقة لباسهم وإعفاء لحاهم وفي التشبُّث بشيخ طائفتهم وبتحريم الخروج على الحاكم وبالتنكير على متعاطي السياسة وغيرها.
لقد وقفتُ شخصيا على كل هذه الشبهات التي أثارها بعض المفكرين الحداثيين التي تستهدف جماعة إسلامية بعينها رغم اختلافنا معها في بعض فروع التصورات إلا أننا نستميت في الدفاع عنها ضد أي تحامل يهودي يستهدفها، لأن استهدافها هو استهدافٌ للجميع، وهو فوق ذلك استهدافٌ للإسلام الذي آلينا على أنفسنا أن ننصره وننافح عن بيضته إلى آخر رمق من حياتنا. إن “السلفية” الإسلامية إن جاز لنا استخدام هذا المصطلح رغم اختلافنا معها في بعض الفروع ورغم أخطائها الكثيرة التي نبهنا إليها حبا فيها وليس انتقاما منها كما يرمينا بذلك بعض أدعياء السلفية، رغم هذه الاختلافات التي لا نحسبها شيئا أمام الأشياء الكثيرة التي تجمعنا، إلا أننا نقيِّض أقلامنا للدفاع عنها ضد أي مكائد يهودية ولتقويض كل التصورات التي نسبها بعض المفكرين الحداثيين إليها.
قد لا يدرك كثيرٌ من المسلمين أبعاد الادِّعاءات التي تطلقها طائفة “الحريديم” من أنها الوريث الشرعي للديانة اليهودية والتعاليم الموسوية وبأن ما يُسمى -كما تدعي هذه الطائفة- “الدينَ الإسلامي” إنما هو “دجل وخبل وحلم استقرّ في عقول المسلمين” وأن الحقيقة -كما زعمت هذه الطائفة- وهي حقيقة صادمة هي أن “اليهودية هي الصورة الحقيقية للشريعة الإلهية وأن الإسلام إنما هو شريعة مزيَّفة يكذّبها التاريخ”. لقد تمادت طائفة “الحريديم” في تحاملها على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته ونساء المؤمنين ووصفت النبي صلى الله عليه وسلم بأنه “ناقلٌ للشريعة اليهودية بحذافيرها” وبأن الصحابة رضوان الله عليهم قد “تعلموا أدب المعاملة وأخذوا أدب المصاحبة من جماعة موسى عليه السلام”، وبأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم إنما “أخذن آداب الحشمة وآداب الوقار من النساء اليهوديات”.
ليس هناك افتراءٌ أكثر من هذا الافتراء؛ فعقلاء اليهود يعلمون بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو تصحيحٌ للعقيدة الموسوية التي أزال عنها اليهود كثيرا من الأشياء الجميلة التي تميِّزها ونزعوا عنها لباس التوحيد وألبسوها لباس التجسيد وأخرجوها من طور “المقدَّس” إلى طور “المدنَّس”، وعقلاء اليهود يعلمون أيضا بأن سيرة الصحابة رضوان الله عليهم في امتثالهم لهدي نبيهم صلى الله عليهم وسلم ووقوفهم عند حدود الله سبحانه وتعالى بعيدة كل البعد عن سيرة من سموهم “جماعة موسى” الذين تآمر بعضُهم عليه وخانه بعضهم، وعقلاء اليهود يعلمون أيضا بأن سيرة أمهات المؤمنين وسيرة الصحابيات رضي الله عنهن لا تشبه في طهرها مظاهر العهر التي كانت عليها النساء اليهوديات، فلم يرِد في القرآن والسنة المطهرة أن إحداهن سرقت حليَّ الغريبات كما نقرأ في “العهد القديم” عن النساء اليهوديات اللواتي سرقن حليَّ المصريات.
من الظلم أن يعمد بعض أدعياء الفكر إلى الربط بين “الحيريديم” وبين “السلفيين”؛ فهؤلاء يدعون إلى عبادة إله يتعب ويغضب، وأولئك يدعون إلى عبادة من قال عن نفسه في قرآنه: “ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب” ( ق 38 )، فمن الظلم أن نجعلهم سواء، وقد صدق الله تعالى حين قال: “أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار”. (ص 26). ومن الظلم أن يعمد بعض أدعياء الفكر إلى الربط بين السلفية المباركة والسلفية الجهادية والزعم بأن هذه السلفية الأخيرة التي خرجت من رحمها كثيرٌ من الجماعات المتشددة إنما هي عدوى انتقلت إليها من الجماعات اليهودية المتشددة أو ما يسمى الجماعات السلفية اليهودية. إن السلفية المباركة -على عللها الكثيرة- نسيجٌ إسلامي سلفي لا يمكن أن يكون نتاجا يهوديا ولا يمكن أن يكون للحيريديم تأثير عليها. ومن جهة أخرى، فإن من يبثون هذه الأفكار النشاز يعلمون بأن السلفية اليهودية سلفية نصِّية طقوسية لا شأن لها بأي صراع على السلطة، وهذا هو ديدن الجماعات المعاصرة منهم التي تفضل حياة الاعتزال الديني وعدم الاختلاط بالجماعات اليهودية الأخرى ولا تحبذ الدخول في أي صراع أو الدعوة إليهم، ولذلك وصفهم بعض الكتاب اليهود بأنهم الجماعة المسالمة التي غايتها العيش في رحاب الشريعة اليهودية وتطليق السياسة وكل ما يبعدها عن هذه الشريعة.
وأودُّ أن أشير في النهاية إلى أن “السلفية اليهودية” و”اليهودي السلفي” هي مصطلحاتٌ شائعة في الأدبيات الإعلامية الغربية المعاصرة وليست شيئا مبتدَعا أو مختلَقا أتيتُ به من بنات أفكاري، فقد كتب “حمد الماجد”، عضو الجمعيّة الوطنيّة لحقوق الإنسان وعضو مجلس إدارة مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والحضارات بفيينا مقالا في صحيفة “الشرق الأوسط” في 30 يونيو 2020 بعنوان “يهودي سلفي”، يقول في بدايته: “هذا العنوان ليس من عندي، وإنما نطق به مداعباً زميلُنا في مجلس إدارة مركز الملك عبد الله العالمي لحوار أتباع الديانات والثقافات في العاصمة النمساوية فيينا، ممثلاً للديانة اليهودية، ذكر ما سماه اليهودية السلفية في معرض انتمائه المذهبي في اليهودية «يهودي أرثوذكس»، وهي طائفة دينية تتميز عن غيرها بالتمسك الصارم بـ(الهالاخاة)، وهو الجزء التشريعي من التلمود، ولهذا يطلق بعض المستشرقين والباحثين والإعلاميين الغربيين وصف «مسلم أرثوذكس» على المنتمين للسلفية، وهي لفظة مرادِفة للوهابية الشائعة في الأدبيات العلمية والإعلامية العالمية، وهي الفئة التي تعتمد في فهمها للعقائد والتشريعات الإسلامية على مرجعية العهد النبوي والقرون الثلاثة الأولى التي تلته”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!