-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شيء من مذكرات عائد من لاغوس

أبو جرة سلطاني
  • 1349
  • 1
شيء من مذكرات عائد من لاغوس

فلاش باك: مدينة “لاغوس” كانت عاصمة نيجيريا السياسية قبل أن تصير “أبوجا” هي العاصمة منذ شهر ديسمبر 1991. عدد سكانها نحو 22 مليون نسمة أغلبهم مسلمون، يتعايشون مع غير المسلمين بسلام واحترام وتعاون يجعلك لا تفرق بين مسلم ومسيحي ووثني إلا على مستوى الدّرس النظري. فالحرية مكفولة للجميع على أساس “المواطنة الكاملة” لكل نيجيري. نظامها صارم وأرضها واسعة معطاء..ولكن مستوى التنمية ضعيف والاهتمام بالزراعة ليس أولوية عندهم مع أن لاغوس عائمة فوق الماء..

الفروق صارخة بين مستويات المعيشة داخل المدينة الواحدة (لاغوس مثلا مقسمة إلى مدينتين: قديمة وجديدة، وبينهما فوارق واسعة في العمران والنظافة وفي وسائل العيش..). في اتجاهنا للعبور إلى المحيط الأطلسي ممرنا فوق أطول جسر في إفريقيا، يمتد فوق نهر متدفق وحولة مساكن راقية (لاغوس عبارة عن أربع جزر موصولة بجسور)، لكن رغم وفرة المياة لا تلوح لك خضرة الأرض إلا لماما. ولا تكاد ترى حدائق حول فيلات فخمة إلا نادرا.. مع أنها عائمة فوق الماء.  فمقومات الإقلاع الحضاري متوفرة ولكن العنصر البشري غير متحفز للمبادرة، ربما بسبب غياب القرار السياسي..!! أو ربما بسبب الخلفية الثقافية أو لأسباب أخرى..

1- ملاحظات عابرة: كنت دائما أرى أن نهضة إفريقيا معقودة بخناصر خمس دول، هي: الجزائر. مصر. نيجيريا. ناميبيا. وجنوب إفريقيا. ولما كتب الله لي المشاركة في المؤتمر الدولي 14 للفكر والدعوة الذي نظمه مجمع دار النعيم للعلوم الشرعية بتاريخ 1 و2  يناير 2022 بلاغوس، وكانت مشاركتي فيه باسم المنتدى العالمي للوسطية.. ازددت يقينا بأن هذه الدول الخمس (ومعها خمس أخرى شبيهة بها) هي قاطرة التحوّل المأمول للقارة السمراء في السنوات العشر القادمة.

فقد كانت الفرصة مواتية لها بين سنوات 2000/ 2016، ولكنها لم تقلع لأسباب ضيعها رؤساء هذه الدول ليس مجال ذكرها في هذا المقال العابر.

2- من أوقع ما أثر في نفسي أننا غائبون رسميا عن المجتمع الأهلى (المدني) وعن جميع المحافل العلمية والفكرية والدينية والإعلامية.. ولا نرى جديرا بالحضور الرسمي سوى التظاهرات العسكرية والسياسية والرياضية والفلكلورية والمعارض التجارية والاقتصادية أحيانا..!! او عندما يزور مسؤول رفيع المستوى دولة صديقة..!! فقد لفت انتباهي حضور ممثلي السلك الدباوماسي لدول كثيرة (منها المغرب وليبيا..) أما الجزائر الرسمية فلا أثر لها..!! وقد أخذتني الغيرة على بلدي فهاتفت سفارتنا بأبوجا وأبرقت لسعادة السفير رسائل (sms) ولكن لا حياة لمن تنادي..!! في حين توالى وصول الوفود من مختلف أنحاء القارة واكتمل النصاب قبيل صبيحة الافتتاح بزهاء 25 محاضرا وبأزيد من 6000 مشارك من الجنسين تابعوا أشغال المؤتمر في ساحة اللقاء حسب المنظمين.

أشرف السيد وزير الداخلية النيجيري ع. ر أريبيسولا على مراسم حفل الافتتاح، بحضور نائب حاكم الولاية(حضر حفل الافتتاح حوالي12000 شخص). وكانت لي فرصة لتقديم كلمتي باسم الجزائر التي أحسست أن الحضور جميعا يكنون لها وافر الاحترام والتقدير والثناء..

وعلى مدار يومين كاملين عرض المشاركون خلاصات مركزة لمحاضراتهم الأكاديمية (نحو 20 عرضا عدا التعقيبات والمناقشات) كللت بتوصيات ثمينة من أهمها:

– لا تعارض بين الانتماء الديني والمواطنة في تنظيم مصالح العباد والبلاد والعيش المشترك.

– مازال مجال الفقه السياسي ضيقا وعلى العلماء الاجتهاد في توسيعه ليستغرق القضايا الطارئة على أمة الإسلام.

– المحافظة على الحريات طريق للتعايش والوئام والمصالحة.. واعتماد سياسة “الباب المفتوح” بين المواطن وبين إدارة بلده.

-تحسين الخطاب الدعوي والمناصحة واجتناب الغلو والتطرف.. وتأهيل طلبة العلم ليكونوا أكثر إيجابية.

هذه لمحة خاطفة عن وقائع المؤتمر الذي كانت طبعته 14 تحت عنوان “الفقه السياسي في الإسلام ومتغيرات البيئة” ، وهدفي من هذا العرض ليس الترويج للمؤتمر ولا الإشادة بالشيخ الوقور المبجل عمران عبد المجيد رئيس مجمع النعيم المعروف ب”صاحب الإنجازات الكبرى”. وهو يستحق كل التقدير والاحترام للأدوار التي يضطلع بها في بلده وفي العالم. إنما غايتي الحديث عن انتشار الإسلام في نيجيريا وشغف كثير من المواطنين بطلب العلوم الشرعية (الشيخ عمران يسعى لإيفاد بعثة من طلبة مجمعه للدراسة في الجزائر، ولو كنت وزيرا للجامعات أو رئيسا للحكومة لفتحت لهم 100منحة دراسية في مختلف التخصصات فأن لها ما بعدها). فقد صار من الحكمة إرسال النظر إلى ما بعد سنة 2025. وتقديري أن أفضل بوابات الولوج إلى عمق القارة السمراء أربعة: الطلبة. والتجارة. والدعوة. والنشاط الدبلوماسي الرسمي والمكمل له.

3- على هامش المؤتمر: أنهينا أشغال المؤتمر بنجاح لم يكن متوقعا (حضورا وتنظيما ومشاركة ودسامة مداخلات وتوافقا على كثير من القضايا ذات الاهتمام المشترك). وكان من حسن حظي أن بقيّ لي متسع من الوقت قبل عودتي إلى وطني، يومان كاملان، خصصت اليوم الأول – بعد نهاية أشغال المؤتمر- لزيارة معالم المدينة وما حولها (إلى المحيط الأطلسي) للاطلاع على شيء من ثقافتها وحضارتها وعاداتها وتقاليدها والصلاة في مساجدها والتعرف على علمائها وخطبائها وأئمتها.. وقد زرت بعض مساجدها العامرة (كان من خفة دم الشيخ عمران أنه قدمني لإمامة المصلين لصلاتي المغرب والعشاء، فاعتذرت له قائلا: لا يُفتى والشيخ عمران في لاغوس. فرد علي مبتسما: لا تجوز إمامة الناس والشيخ أبوجرة في لاغوس. وقدمني وأقام الصلاة. فصليت المغرب بقراءة ورش. فلما قمت لصلاة العشاء قال الشيخ عمران: الآن اقرأ بحفص. فقرأت..!! وأظنه كان يختبرني..!!). وقضينا ليلتنا في سمر علمي مفيد..

اليوم الأخير خصّصته لزيارة مؤسسة دار النعيم ومساجدها وملحقاتها ومشاريعها التي في طريق الإنجاز.. وكانت خاتمة المطاف درسا في التعريف بالقرآن الكريم وتفسير سورة العصر نموذجا (تفسير دعوي اجتماعي) بأحدى الثانويات . امتد لبضع ساعات متبوعا بمناقشة مثمرة، شارك فيها الطاقم الفني للثانوية وممثل بعثة الأزهر الشريف وسعادة سفير دولة ليبيا الشقيقة. بحضور الشيخ عمران والشيخ الخضر.. وآخرون

4- خلاصة الدرس: بعد زيارة تفقد لمختلف الأقسام ومعاينة المخابر والتعرف على المقررات الدراسية.. تم تجميع الطلبة والطالبات في مدرج واسع وبدأ الدرس بتحية الحضور وفتح شهيتهم للسماع بتقديم لمحة عن مسيرتي المهنية قلت فيها: عملت مدرسا وأستاذا جامعيا وإمام مسجد ونائبا بالبرلمان ووزيرا لأربع مرات ورئيس حركة محترمة.. فلم أجد أنفع لوطني وشعبي من اثنتين:

– أستاذا يعلم الأجيال ما يساهم في قيام النهضة.

– وإماما يبصر المجتمع بحقيقة رسالة الإسلام وما يجب أن تكون علية الأمة. والبقية وظائف عابرة.

بعد تعريف موجز بالقرآن الكريم، وبما تجب الإحاطة به من علوم لفهمه. وقفت مطولا حول تفسير سورة العصر. وخلاصة ما نقلته إليهم: أنها سورة مكية عدد آياتها 3 آيات. وعدد كلماتها 14 كلمة، فهي رسالة من الله للبشرية تتضمن ثلاثة محاور مترابطة بوحدة إيمانية: قسَم. وتقرير. واستثناء.

أ – قسَم بالعصر: وهو الزمن من بداية الخلقة إلى قيام الساعة. كما هو عصر كل جيل. وهو أيضا وقت صلاة العصر. فالله (جل جلاله) يقسم بالوقت وبالدهر وبالزمن وبصلاة العصر… وبما شاء من أقسام.  وعندما نجد قسما في القرآن الكريم يجب أن ننصت لما بعده، فإن الله لا يقسم إلا على أمر جلل، وقد أقسم بالشمس. وبالليل. وبالضحى. وبالفجر.. وهو خالق الكون العليم بما اودع في مخلوقاته من أسرار لم يتكشف لنا منها سوى قليل.

والقسم بالجماد والنبات والحيوان والإنس والجن.. حق لله وحده. أما نحن المسلمين فلا يجوز لنا الحلف إلا بالله أو الصمت لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):” من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت”، بالقول: والله. بالله. تالله. ورب البيت. والذي بعث محمدا بالحق..

ب – التقرير: بعد القسم يقرر المولى (جل جلاله) قاعدة عامة بأن علاقة الإنسان -أي إنسان – بالزمن والوقت والحياة.. هي علاقة خسران مهما بدا لبعض الناس أنهم رابحون بما استثمروا وترأسوا وسادوا واستغنوا.. وبما صار لهم من جاه وسلطان وحظوة لدى الناس. ولكن الله يقرر أن كل ذلك خسران بقوله تعالى:” إن الإنسان لفي خسر” العصر: ٢.

فعلاقة كل إنسان بالزمن هي علاقة خسران. وليس هناك سوى صنف من الناس استثناهم الله (جل جلاله) من مجموع الخاسرين بأداة استثناء تخرجهم من حالة الخسارة إلى وضع الفوز.

ج – الاستثناء: من بين جميع الخاسرين في سعيهم بسوء استخدام حركتهم مع العصر، يستثني ربنا (جل جلاله) صنفا من الناس أحسنوا استثمار حركتهم في الزمن بأربعة شروط: إيمان. وعمل صالح. وتبادل الوصايا بالحق. والتناصح بالصبر.

فلماذا تم التركيز على هذه الأمور الأربعة ولم يتطرق السياق إلى غيرها من صفات أخرى كالأمانة والصدق والإخلاص والوفاء والتصحية والفداء..؟؟

هذه الشروط الأربعة تتضمن جميع ما يخطر على بال المؤمن من مناقب، فما معنى الإيمان؟ وما مضامين العمل الصالح؟ وما معنى التواصي بالحق؟ وما هي حدود التواصي بالصبر: “إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواثوا بالصبر” العصر: ٣.

– الشرط الأول: الإيمان الذي هو مفتاح الدخول إلى رحاب رحمة الله، فهو شبيه بتأشيرة الدخول إلى دولة بطرق قانونية، فبغير إيمان يعيش الإنسان تائها لأنه دخل الدنيا بغير “فيزا التوحيد” فهو في وضعية غير شرعية ( وضعه غير قانوني بتعبير النظام الوضعي). يعيش القلق والخوف والترقب ..حتى ينتهي إلى القبر ثم البعث ثم الحساب والمصير النار.(وقدمت شواهد كثيرة من القرآن والسنة على أهمية هذا الشرط الذي يحوّل علاقة المرء بالزمن من الخسارة إلى الربح).

الشرط الثاني: العمل الصالح القائم على حدّي الإخلاص لله والصواب على سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، أعلاه شهادة التوحيد وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، وما بينهما هو كل حركة يكون فيها المؤمن أقرب إلى الصواب والمعروف وأبعد عن الخطأ والمنكر. وأنفع لنفسه وللناس، وعلامة ذلك كفّ اليد واللسان وعدم التدخل في ما لا يعني..

والشرط الثالث: التواصي بالحق الذي هو الله. وهو الرسول. وهو الكتاب والموت واليوم الآخر.. فكل ما يقرب الإنسان من ربه حق. وكل ظلم لجماد ادأو نبات أو حيوان أو بشر.. باطل وخسران. وفي حركة القرآن حثّ على الالتزام بالحق والتواصي بإمضائه في النفس والمجتمع.

والشرط الرابع: التواصي بالصبر على اقتحام عقبات الحياة كلها من الصلاة والزكاة والصوم.. إلى صلة الأرحام وحسن الجوار وطلب العلم وابتغاء وجه الله بكل عمل. فلا فلاح إلا بصبر، ولا نجاح إلا بمصابرة ومرابطة وعزم على بلوغ المقاصد.

وخلاصة هذه الشروط الأربعة في حديث شريف يحدد حركة المؤمن في ثلاث دوائر: دائرة التقوى مع الله. ودائرة التوبة مع النفس. ودائرة الخلق الحسن مع جميع الناس: “اتق الله حيثما كنت. وأتبع السيّئة الحسنة تمحها. وخالق الناس بخلق حسن”.

هي سورة يسميها بعض علمائنا “دستور المسلم”، قال فيها الإمام الشافعي: لو لم ينزل من القرآن غيرها لكفتنا.

ثم فُتح نقاش فامتد لأكثر من ساعة تناول مفهوم الوقت في القرآن الكريم ومعنى العصر، وهل غير المؤمنين كلهم خاسرون؟ ولماذا يقسم الله بالعصر والليل والضحى والفجر والنجوم والشمس..؟ وهل تواصي المسلمين بالحق والصبر واجب على كل فرد ادأم هي وظيفة الدعاة والعلماء. ولماذا نقرأها لتكفير المجالس؟ وما الحكمة من وراء ذلك. إلخ؟ وختمنا الدرس بقراءة جماعية لسورة العصر.

ولعلني أعود لسرد ذكريات ممتعة عن هذا البلد الوديع العائم فوق بحيرة ماء.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • محمد

    يا لها من رحلة عادلة كلها إفادة و استفادة...وفقك الله في كل خطرة تخطوها في هذا المضمار.