-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شيرين.. والمتطاولون على الدين!

شيرين.. والمتطاولون على الدين!

بعد ما ظلّت أزيد من ربع قرن تقاوم بشجاعة كبيرة فوق الأرض المقدسة، بالقلم والصوت والصورة عنجهية الكيان الصهيوني، رافضة الفرار من المعركة الوجودية مع الاحتلال الغاصب، سقطت الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في ميدان الشرف، وقد كان في وُسعها أن تعيش بجنسيتها الأمريكية معزَّزة في أي بلد من أصقاع العالم، لكن المرأة البطلة اختارت حياة الكرامة في أكناف بيت المقدس.

لا يختلف عاقلان على ما قامت به هذه المكافِحة، في إطار مهامّها الإعلاميّة، من دفاع باسل عن حقوق الشعب الفلسطيني والذود عن مقدسات الأمة بكل مكوناتها، ناهيك عن أعمالها الخيرية التطوُّعية، بصفة شخصيّة، لتوطين المقدسيّين وتثبيت المرابطين داخل الأقصى نفسه، لذلك حظيت بتوديع تاريخي من أهلها في الداخل وتعاطف منقطع النظير من العرب والمسلمين وكل الأحرار في الخارج.

وعوض أن تكون تلك الوحشية الجبانة التي آثرها العدو الصهيوني في التخلّص من إزعاج البطلة، شيرين أبو عاقلة، فرصة للاصطفاف على قلب رجل واحد في إحياء مشاعر ومبادرات دعم القضيّة الفلسطينية، وتعزيز اللحمة القومية على خط المواجهة المصيريّة مع العدوّ المشترك، سقط الكثير في وحل الجدل العقيم، بل انحرف النقاشُ الجمعي الافتراضي عن رهانات المعركة الحقيقيّة الماثلة إلى هامش سجالات فقهيّة فارغة عمليّا، باسم “الإنسانيّة” أو بذريعة “تبيان أصول العقيدة”.

قد يرفض البعض تفسير ما رافق النهاية البطوليّة لفقيدة القدس من تفاعلات مسيئة وخارج السياق على أنها عملية ممنهجة وموجَّهة من مخابر بث التنازع والفرقة وتشتيت الوعي، لكن المؤكد هو أن الكيان الصهيوني، مقترفَ الجريمة المباشر، هو المستفيدُ الأول من تحوّل الموقف الأصلي عن تعرية الِفعلة الشنعاء للجلاد إلى الاستغراق في المصير الأخروي لضحيته.

بعيدا عن فخِّ الاستدراج الذي جرّنا إليه عنوة المجترئون على الدين باسم الفتوى والمتطاولون عليه في آن واحد تحت غطاء “الإبراهيميّة”، ودون الخوض البيزنطي في أحكام الاستشهاد والترحُّم والاستغفار من منظور شرعي، وتوزيع المقاعد على الخلق بين الجنة والنار، في تألٍّ سافرٍ على الله عز وجلّ الذي اختصّ ذاتَه بالحساب والجزاء، فإنّه كان بوُسع الجميع الإشادة بمناقب مناضلة وطنيّة وقوميّة دفعت حياتها في سبيل قضية مقدَّسة، ليصنع مقتلُها الشنيع محطّة رمزيّة أخرى لتلاحم الشعب الفلسطيني والعربي بتعدُّد أديانه ضد الصهيونيّة العنصريّة.

لقد كشف رحيل شيرين أبو عاقلة مرة أخرى عن بؤس مستحكَم في الوعي الجمعي بالأولويات الحاسمة ضمن تحديّات المرحلة وانحدار سحيق في الذوق الأخلاقي عند الاختلاف وقصور المنهج الدعوي في التبليغ، مثلما فضح تجرُّؤ الكثيرين على قطعيات الوحي، من القرآن والسنّة، دون أدنى اعتبار لشروط الأهلية العلمية قبل الحديث باسم الشريعة الإسلامية.

ونجح للأسف المتنطعون في نقل المعركة من ساحة التعبئة الشعبيّة ضدّ الكيان الإسرائيلي إلى الوقوف بأفراد الأمة على صراط القيامة الكبرى، حتّى راح المُغالون و”الحداثيّون” على السواء، وبكل اطمئنان، يوزِّعون صكوك الغفران وتذاكر العبور إلى دار اليقين.

وحتّى لو جاريْنا المتحدثين في رفعهم لواء الغيرة على الدين، فإنّ الموقف عند حكماء المعرفة الشرعيّة والفقهية لم يكن في حقيقته يتعلّق باستدعاء مفاهيم الولاء والبراء في العقيدة الإسلاميّة على الإطلاق، لأنّ الضحية مناضلة من أبناء الوطن، ومحارِبة في صف واحد مع شعبها ضد العدو الخارجي، بل يقتضي استحضارَ ميزان البرّ والقسط والإحسان إلى شخصها وذويها وبني دينها، بذكر محاسنها في الدنيا ومواساتهم في مصابهم والكفّ عن الإساءة إليهم فيما يتصل بمآل الآخرة، وفق قول كبار العلماء.

ولكن الدهماء وصغار المتعلمين وآخرين من أصحاب النيات الطيّبة، لم يتورّعوا عن افتعال هوْشة “فقهيّة” لا مسوّغ لها، حتّى شغلوا الناس عن واجب الساعة بالنشر والنشر المضاد، ولم يجد المتجرّئون على الفتوى، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حرجًا في حشر آيات قرآنيّة وأحاديث نبوية مبتورة عن سياقاتها ومقاصدها لإصدار أحكام في غاية الخطورة الفقهية والعقدية، ومن دون الرجوع إلى أفهام العلماء وأقوالهم في شرحها، بل صار من حقّ كل مدوِّن افتراضي إنزال النص الشرعيّ على الأشخاص بعينهم وعلى الواقع الملتبس دون حاجة إلى أيّ مرجعيّة موثوقة من أعلام المسلمين.

وفي الجهة المقابلة، كانت الجرأة مماثلة أيضا لدى “تيّار إنسانيّ” طغت عليه العواطف، وغلب عليه الجهل أو التساهل بأصول الدين، فتجاوز ذكر المحاسن المطلوب في هذه المواقف، إلى الدخول في متاهات التوظيف الفاسد ومحاولات تطويع النصوص القرآنية والمرويّات النبويّة، بغية الانتصار لآراء فقهية هشّة، لم يكن حريًّا به أصلا السقوط فيها.

ما أوردناه من عتاب في هذا المقام ليس مسكًا للعصا من الوسط كما قد يتوهمه البعض، بل إن الموضوعيّة تُوجب نقد الخطأ من أي طرف صدر، فقد وقع كلا الفريقين في المحظور، وبسبب جدلٍ فاسد لا يُبنى عليه عملٌ ضاعت البوصلة في تحديد الاتجاه الصحيح نحو أهداف المعركة، ولا نتوقَّع أن تكون هذه محطتنا الأخيرة مع السِّجال الفارغ، لأنّ المجتمع يعيش حالة تيهٍ كبيرة طفا فوقها زبدُ الأقوال، بينما في القاع ترسَّب ما ينفعُ من الأفعال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!