-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

صار ينشر بحثا كل 37 ساعة!

صار ينشر بحثا كل 37 ساعة!

إنه كيميائيٌّ إسباني من جامعة قرطبة، تحصل فيها على الدكتوراه عام 2005، ويبلغ من العمر 44 سنة، وذاع صيته في العالم لأنه يتقن 5 لغات، وأشرف على 17 شهادة دكتوراه، وتمت الإحالة إلى أبحاثه أكثر من 35 ألف مرة. وكان في رأس قائمة الباحثين في العالم الذين اُستشهد بأعمالهم خلال الفترة 2018-2021. ثم إنه نشر نحو 700 بحث أكاديمي مع التركيز على ما يُعرف بمجال “الكيمياء الخضراء” التي تهدف إلى تصنيع منتجات، مثل الأدوية والوقود، مع توليد كمية قليلة من النفايات. وفضلا عن ذلك، أصدر 10 كتب في الكيمياء، ويشتغل عضوا في هيئات تحرير أزيد من 15 مجلة أكاديمية عالمية. إنه الأستاذ رافييل لوك Rafael Luque الأستاذ بجامعة قرطبة.

توقيفٌ عن العمل

ورغم كل هذه الاسهامات العلمية الراقية، عاقبته مؤخرا جامعته إذ قرَّرت توقيفه عن العمل لمدة 13 سنة! كان الأستاذ لوك يجول في جامعات العالم (الصين، روسيا، السعودية، البرازيل، ألمانيا، إيطاليا، فرنسا…) ويحصل على تمويلات لأبحاثه التطبيقية بملايين الدولارات. وقد لفت انتباه أقرانه بغزارة إنتاجه حتى وصل هذا العام إلى القمة في عدد المقالات المنشورة، فوتيرة عمله جعلته ينتج 58 بحثا خلال الثلاثي الأول من عام 2023، وهذا يعني معدل نشر بحث كل 37 ساعة!

نشر الأستاذ لوك خلال العام 2022 نحو 110 مقال. وقد اعترف أنه أصبح، منذ ديسمبر 2022، يستخدم برنامج الذكاء الاصطناعي “شات جي بي تي” (ChatGPT) الذي ظهر حديثا. غير أنه يوضح بأن هذا الاستعمال هو لـ”تلميع” الجانب اللغوي (الأنكليزي) في النص لا غير!

وما حدث قبل نحو 5 أشهر أن جامعة قرطبة أصدرت عقوبة في حق رافييل لوك، بسبب عمله كباحث في مراكز أخرى خارج إسبانيا، مثل جامعة الملك سعود في الرياض وجامعة الصداقة بين الشعوب الروسية في موسكو. وهذا السلوك يمنعه قانون الجامعة الإسبانية عندما يكون المعني يعمل بعقد يلزمه بالدوام الكامل في الجامعة بتمويل من القطاع العامّ الإسباني. لكن الأستاذ لوك خالف هذا القانون على الرغم من أنه يؤكد أنه لم يتلق أي أموال بشكل مباشر من المؤسسات المذكورة.. وفي الوقت ذاته، لم ينف أنه أبرم عقودا مع جهات أجنبية منذ 2019.

وعلى كل حال، فغزارة إنتاج الباحث لوك وحقل اختصاصه وأهمية المواضيع التي يتطرق إليها من الناحية التطبيقية والبيئية جعلت كثيرا من الجامعات في العالم تتنافس لتوظيفه. زد على ذلك أن كمّ إنتاجه هذا سيرفع مراتب الجامعات التي ينتسب إليها في التصنيفات الأكاديمية الدولية، مثل تصنيف شنغهاي الصيني، ارتفاعا مدهشا. فمثلا، سيؤدي فقدان جامعة قرطبة لخدماته -جراء توقيفه عن العمل عندها- إلى تقهقر مرتبتها في هذا التصنيف بنحو 300 مرتبة! ولهذا صرح لوك بقوله إن جامعة قرطبة قد “أطلقت النار على قدميها بسبب إيقافه عن العمل فيها”.. وأضاف واصفا المشهد إن “الحسد” هو الذي دفع إلى هذه العقوبة، ذلك أن “لديهم ضغينة ضدي لأنني عالمٌ غزير الإنتاج ويحترمني الكثير من الناس”.

حال النشر العلمي اليوم

مصيبة النظام العالمي الحالي في النشر العلمي أنه يحكم على الباحث وفق القاعدة الشهيرة التي يتم التعبير عنها بـ”النشر أو الهلاك” (Publish or Perish) التي تعني: إذا لم يكثف الباحث عدد منشوراته فسيفقد في آخر المطاف وظيفته أو ترقيته. وما يعاب أكثر فأكثر على هذه القاعدة أنها أدت بمرّ السنين إلى تجاهل النوعية في هذا المجال على حساب الكمّ. وتلك هي كارثة دنيا النشر في الوقت الراهن في كل أرجاء العالم.

فقد انتشرت “مصانع لدراسات علمية” مشبوهة، تعتمد على طريقة “النسخ واللصق” أو على توليد نصوص “علمية” آلية، منها ما يباع سرًّا كمؤلفات بآلاف الدولارات من أجل إثراء وتضخيم السير الذاتية للباحثين والمدرّسين جريًا وراء الترقية وعدم فقدان المناصب. وفي هذا السياق، كشف أحد المحققين البريطانيين أن بحثا من الأبحاث التي ورد فيها اسم الأستاذ رافييل لوك كان عرضة لهذا التعامل، واعترف لوك أنه لم يكن يعرف كل الذين شاركوه من المؤلفين في ذلك البحث، وأكد أنه لم يدفع أي مقابل لظهور اسمه في البحث.

ونشر الأستاذ لوك خلال العام 2022 نحو 110 مقال. وقد اعترف أنه أصبح، منذ ديسمبر 2022، يستخدم برنامج الذكاء الاصطناعي “شات جي بي تي” (ChatGPT) الذي ظهر حديثا. غير أنه يوضح بأن هذا الاستعمال هو لـ”تلميع” الجانب اللغوي (الأنكليزي) في النص لا غير! ويضيف أن ذلك جعل “الأشهر الماضية مثمرة للغاية، لأن هناك مقالات كانت تتطلب يومين أو ثلاثة أيام، والآن أقوم بتحريرها خلال يوم واحد باستخدام هذا البرنامج”!

وهكذا يعترف الأستاذ لوك أنه يستعمل الآلة في تحرير بحوثه لتحسين تعبيره المكتوب باللغة الإنكليزية، وينفي بشدة استعماله في غير ذلك، رغم أن البرنامج يوّفر الأبحاث الجاهزة حسب الطلب. وتجدر الإشارة إلى أن كثرة الآلات الحديثة ليست دائما نقمة في هذا المجال، إذ هناك برامج معلوماتية تكشف السرقات العلمية والاقتباسات. وهكذا تبيّن مثلا من خلال الموقع الإلكتروني الأمريكي الشهير “PubPeer” أن هناك انتقادات علمية لحوالي 90 دراسة قام بها رافييل لوك بسبب احتوائها على اقتباسات غير ضرورية من بحوث أخرى الهدف منها تضخيم عدد الاقتباسات من الزملاء الآخرين بشكل مصطنع.

وقبل أن تعاقب جامعة قرطبة الأستاذ لوك كانت، في عام 2018، تتفاخر بأن 84 من أصل 100 دراسة بقلم الباحث لوك قد استشهد بها علماء آخرون بشكل مكثف، وأنه حصل على العديد من الجوائز، مثل جائزة الجمعية الملكية البريطانية للكيمياء في عام 2013، وجائزة من وزارة الأبحاث الألمانية عام 2011.

ومن يبحث في السيرة العلمية للأستاذ لوك سيجد أنه تورط عام 2011 في قضية ارتكاب مخالفة يعاقب عليها قانون الملكية الفكرية، وذلك عندما نشر أحد الطلاب من جامعة إسبانية أخرى بحثا بعد استحواذه على نتائج علمية للغير، وحدث ذلك بمعية لوك. يردّ الأستاذ لوك على هذه الإدانة بالقول: “لقد ساعدت الطالب في مراجعة المقال، وفي صياغته باللغة الإنكليزية ونشره…”. ويضيف أنه استأنف الحكم بعد أن أدانته المحكمة.

توقف الأستاذ لوك عن العمل بالجامعة التي درَس ودرَّس فيها خلال 15 سنة. وكانت منشوراته خلال السنوات الأخيرة تحمل عنوان مؤسسات إسبانية، وبوجه خاص جامعة قرطبة، لكن كثيرا منها تحمل أيضا عناوين جامعات أخرى (لاسيما من الصين وروسيا والسعودية والسويد والإكوادور وإيطاليا). ويلاحظ المتتبعون أنه رغم ذلك كله لم تظهر أي انتقادات جادة في جودة أعمال هذا العالم. وهو يعترف بالخطأ في تجاوز الإجراءات القانونية السارية المفعول في الجامعة عندما تعاون مع مؤسسات أخرى، لكنه يؤكد أن “الحسد” هو الدافع إلى العقوبة التي سُلّطت عليه.

فمن الخاسر في آخر المطاف بتسليط العقوبة على هذا الأستاذ؟ يبدو في آخر المطاف أن جامعة قرطبة هي الخاسر الأكبر. أما هرولة الباحثين وراء غزارة الإنتاج الغثّ فذلك موضوع آخر يهم كل جامعات العالم وجامعاتنا بوجه خاص.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!