-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

صبرينة الواعر ترصد أهم المحطات في تاريخ مدينة ندرومة

د. حسين بوبيدي
  • 1072
  • 0
صبرينة الواعر ترصد أهم المحطات في تاريخ مدينة ندرومة

صدر عن مطبعة دار ومضة بجيجل كتابٌ جديد للأستاذة والباحثة: أ.د صبرينة الواعر أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر بالمدرسة العليا للأساتذة آسيا جبار بقسنطينة حمل عنوان: محطات في تاريخ مدينة ندرومة خلال الفترة الاستعمارية 1842-1954دراسة اجتماعية واقتصادية، عملت فيه على تجلية التحولات التي مسّت هذه المدينة الجزائرية العريقة بفعل السلطة الاستعمارية الدخيلة عليها، وسياساتها الرامية إلى تغيير هويتها وبنيتها الاجتماعية وأدوارها الاقتصادية، وتوقيع قطيعة مع تاريخها الذي يذكّر دوما بالخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي الكومي الذي ولد غير بعيد عنها في منطقة تجرا.

ينتمي هذا العمل إلى الدراسات المونوغرافية، ولاشك في أن التأريخ للحواضر يكتسي أهمية بارزة، وإذا تبدّى لأول وهلة جنوحا نحو التاريخ المحلي الضيق؛ فإنه ليس تاريخا محليا منعزلا عن محيطه ومنقطعا عن أصوله، بل هو  بمثابة اللبنة في إقامة صرح التاريخ الوطني الشامل، وتشييد بنيان الأمة الجامعة، وخاصة عندما تكون الحواضر المدروسة قد تخطَّى إشعاعها العلمي وتأثيرها الفكري ودورها السياسي مجالاتها القريبة منها، ليسهم في إعادة تشكيل مجتمعات عديدة، وبناء هويتها الحضارية ورسم معالم رؤيتها الفكرية.

مهّدت الدكتورة صبرينة الواعر لعملها بمدخل يبدأ بتوصيف الحيز الجغرافي لندرومة، ويبحث في أصل تسميتها، إذ ترجّح المؤلفة أنها: تادرومت/تادرومات؛ وتستحضر التوصيفات التي ذكرتها كتبُ الجغرافيا العربية للمنطقة عندما كانت تحمل اسم: فلاوسن/ فالوسن، والعناصر السكانية التي سكنتها (مطماطة، ترجة، جزولة، صنهاجة، أنجفة، أنجيزة)، ثم تتابع تاريخها منذ العهد المرابطي الذي شيِّدت فيه، وتم بناء أول مسجد بالمدينة في هذه المرحلة كما كشفته البحوث الأثرية، ثم اكتسبت المدينة شهرتها في العهد الموحدي، ويبدو أن أهميتها في قيام حركتهم وتنظيم دفاعاتهم ضد المرابطين هي التي رسَّخت في الذاكرة الجماعية نسبة تأسيها لعبد المؤمن بن علي الكومي.

وتتابع المؤلفة تاريخ ندرومة في سياق التأريخ للصراع بين الزيانيين والمرينيين، ندرك من خلال ملاحظة مشاريع التوسُّع المرينية أنَّ المدينة قد عانت من ويلات الحروب والحصار قبل أن تستقر تحت سلطة الزيانيين لغاية وصول العثمانيين، لتدخل ندرومة في دوامة الصراع العثماني السعدي ثم العثماني العلوي من جديد، وتنتهي إلى ترسيم ولائها وتبعيتها للحكم العثماني الذي أقام فيها حامية قوية.

تبحث الدكتورة صبرينة الواعر بعد هذا المدخل التركيبة السكانية للمدينة، وتؤكد على عمقها الأمازيغي، ثم تستحضر الحضور العربي الهلالي، وتتابع هنا عملية استعراب سكان ندرومة وتبنيهم للغة العربية من خلال البحث في سياقات هذا التحول الألسني لحاضرة أمازيغية، منبهة إلى عوامل عديدة؛ تتعلق بقيام الدولة الإدريسية ومركزية اللغة العربية فيها، وفاعلية الثقافة العربية الإسلامية من خلال المؤسسات الثقافية، والاحتكاك بين العنصرين الأمازيغي والعربي، وأخيرا تأثير الهجرات الأندلسية، وهي بالتالي تؤكد عملية الاستعراب الهادئة الناتجة عن المثاقفة والتساكن، مشيرة بعد ذلك إلى حضور العنصر اليهودي في المدينة؛ وخاصة بعد عمليات الطرد التي تعرضوا لها بالأندلس عقب سقوط مملكة غرناطة، منبِّهة إلى أنهم كانوا يقطنون خارج المدينة لمدة طويلة قبل أن يُسمح لهم بدخولها، وقد تابعت الإشارات حول مستوى هذا الحضور؛ إذ سيبلغ عدد العائلات اليهودية سنة: 1867 نحو 79 عائلة؛ وخصصت المؤلفة مساحة من هذا العمل للحديث عن عناصر أخرى يُطلق عليها وصف: البرَّانية؛ ومنهم العنصر الزنجي الذي يطلق عليه اسم: الكناوة/ القناوة، وقد رصدت المؤلفة أهمّ أنشطتهم.

في حديثها عن عادات المجتمع الندرومي وتقاليده، تقدِّم لنا المؤلفة إضاءات حول منازل السكان والتأثيرات العمرانية فيه، إذ تستحضر إلى جانب جذوره المحلية؛ التأثير المرابطي والموريسكي، مؤكدة مركزيةَ الخصوصيات العمرانية الإسلامية في المدينة ومركزية المسجد الجامع فيها، ومع أن أغلب هذه العمارة كانت من طابق واحد متعدد الغرف حيث ثقافة الأسرة الكبيرة، إلا أنّ الطبقة الثرية كانت تملك منازلَ من طابقين ذات مواصفات تدل على مستوى الرفاهية.

وداخل المدينة اهتمت المؤلفة بالشوارع والدروب وامتداداتها ونمط تخطيطها المتميز بالضيق والتعرُّج، ثم ألمحت إلى التغذية الندرومية وأهم أطعمتها، بالإضافة إلى الأطباق الرسمية التي تحضَّر في المناسبات، وقدّمت توصيفا مميزا لألبسة الرجال والنساء يضع القارئ أمام صورة جميلة للثقافة الجزائرية الأصيلة، ويبرز في هذه الألبسة تمايز الناس حسب مستواهم المعيشي، كما نكتشف أن الجو البارد ألقى بتأثيره على كثرة الألبسة التي يحمي بها الإنسان نفسه من قسوة الطبيعة.

تستحضر المؤلفة القضايا الدينية والثقافية؛ وتشير إلى أن ندرومة -مثل باقي المجالات المغاربية- قد شملها تيارُ التصوف ليشكل مرجعية روحية للمدينة، ورصدت الطرق التي انتمى إليها أهلها في القرن 19، وأهمها: القادرية، الشاذلية، والطيبية، مبيِّنة وظيفتها التعليمية ورعاية الشؤون الدينية للسكان، وأشارت إلى طبيعة العلاقات بينها وبين السلطة العثمانية، والأدوار التي قامت بها في ثورات القرن 19 ضد الفرنسيين.

ولم يفت المؤلفةَ أن تخصص مساحة هامة من كتابها لمساجد مدينة ندرومة، والإشارة إلى تاريخ بنائها واهتمام السكان بصيانتها والوقف عليها لتمارس رسالتها، ومن أهمها: المسجد الكبير الذي أسِّس في العهد المرابطي، ومسجد البجاي، ومسجد سيدي سياج، ومسجد سيدي يحيى بن الزعيوف، منبِّهة إلى محطات أساسية من تاريخ هذه المساجد، مثل المؤسِّس، وسبب التسمية، وتجديد البناء، والأدوار التي قام بها، وبعض الشخصيات التي بقيت الذاكرة تحتفظ بعلاقتهم بكل مسجد من هذه المساجد، بالإضافة إلى مساجد أخرى بالمدينة.

وقد ألقت المؤلفة الضوء على تسرب بعض التقاليد الدينية المنتشرة في المجتمع المسلم الندرومي إلى يهود المدينة، وأبرزت في دراستها لتقاليدهم الاجتماعية والثقافية أنهم تبنُّوا طقوسا وعادات غريبة تتعلق بالأولياء والأضرحة شبيهة بما كان منتشرا بين الندروميين المسلمين، بما يبيِّن أن هذه المظاهر التي طبعت مرحلة الانحطاط كانت سمة طبعت مختلف البلدان الإسلامية معبِّرة عن تدين شعبوي، وفي رصدها لأهم الاحتفالات الموسمية بمدينة ندرومة ذكرت المؤلفة: الناير، السابعة، النطح، النيسان، العنصرة.

في تأريخها لسقوط ندرومة تحت نير الاستعمار الفرنسي، تستحضر الدكتورة صبرينة الواعر علاقة المدينة المضطربة بالأمير عبد القادر -في محاولتهم الحفاظ على استقلالية مجلس الجماعة في تسييرها كما ألفوه عهد العثمانيين- قبل أن تجد فيه الضمانة الوحيدة في محاولة النجاة من الزحف الاستعماري، لكنها سقطت في يد الجنرال بيدو/Bideau سنة 1842، ورغم ذلك شارك بعض أهلها مع الأمير في معركة سيدي إبراهيم سنة 1845، قبل أن يعزز الاستعمارُ مراكزه في المنطقة ويُخضعها لإرادته، وسيعمد في البداية إلى  المحافظة على نمط التسيير المحلي (قائد مجلس الجماعة الذي يساعده أعيان المدينة) وربط المدينة بالمكتب العربي بنمور، قبل أن يتم التحوُّل من الحكم العسكري إلى المدني في المدينة منذ 1870، وفي سنة 1880 تصبح ندرومة بلدية مختلطة يديرها حاكمٌ أوروبي بشكل مباشر، يُنهي مرحلة الحكم غير المباشر الذي تمّ فيه بالتدريج تقليص صلاحيات مجلس الجماعة وتعزيز سلطة المستوطنين.

تبحث الدكتورة صبرينة الواعر بعد هذا المدخل التركيبة السكانية للمدينة، وتؤكد على عمقها الأمازيغي، ثم تستحضر الحضور العربي الهلالي، وتتابع هنا عملية استعراب سكان ندرومة وتبنيهم للغة العربية من خلال البحث في سياقات هذا التحول الألسني لحاضرة أمازيغية، منبهة إلى عوامل عديدة؛ تتعلق بقيام الدولة الإدريسية ومركزية اللغة العربية فيها، وفاعلية الثقافة العربية الإسلامية من خلال المؤسسات الثقافية، والاحتكاك بين العنصرين الأمازيغي والعربي، وأخيرا تأثير الهجرات الأندلسية.

أبرزت المؤلفة التوسُّع الاستيطاني في ندرومة، ومع أنه تأخر مقارنة بالمناطق الأخرى غرب الجزائر بسبب استمرارية جيوبٍ للمقاومة، فإنه سيترك أثره تدريجيا على الأرض والسكان، فمنذ سنة 1867 سيبدأ الحضور الأوروبي، وتوضع لبنة المدرسة الفرنسية الرامية إلى توفير التعليم للمستوطنين ودمج الجزائريين في منظومتهم الثقافية، ويتعزز هذا الحضور (الذي طغى عليه العنصر الاسباني) بتجنيس اليهود ليصبحوا جزءا من المجتمع الأوروبي، وتضع لنا الكاتبة جداول تبيّن مسار الاستحواذ على الأرض، لأجل دعم الاستقرار الاستيطاني وتفكيك البنية الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، ورغم ذلك فإن المدينة ستحافظ على طابعها العربي الإسلامي العصيّ على الاختراق.

تعالج المؤلفة التحولات العمرانية التي شهدتها المدينة، مؤكدة على التوسع الذي عرفته، والذي واكب الزيادة السكانية ودخول عناصر جديدة بفعل الهجرة الريفية، ومع أن المدينة القديمة حافظت على طابعها؛ فإن تغييرات مست نمط بناء بعض مساكن الطبقة الغنية فيها، وقد شهدت ندرومة توسُّعا خارج أسوارها بداية القرن العشرين، ورغم هذا الحضور الاستيطاني؛ يمكن القولُ إن الاختراق الفرنسي للحيِّز القديم لم يتحقق بما يؤدي إلى تغييرات عميقة، فبقيت المدينة عمرانيًّا بيد أهلها الذين تمسكوا بملكياتهم؛ إلا ما صادره الاستعمار بقوة الحديد والظلم والتسلط.

خصصت المؤلفة مساحة هامة من كتابها لرصد الأوضاع الاقتصادية في مدينة ندرومة خلال الفترة الاستعمارية؛ تناولت فيه أنواع المِلكيات الزراعية، وأبرزت أهم أنواع المزروعات، ونشاط تربية الحيوانات، ودرست السياسات الزراعية الاستعمارية عبر الشركة الزراعية للاحتياط ( (SAPكاشفة عن أهدافها الرامية إلى هدم البنى التقليدية وترسيخ واقع جديد يمكن للمنظومة الاقتصادية الاستعمارية أن تستوعبه في هياكلها. وفي الأنشطة الحِرفية أظهرت أهمّ الحرف التي عُرف بها المجتمع الندرومي، ووصفت طرق العمل من تحصيل المادة إلى التقنيات المعتمدة في الانجاز، ومن خلال النص ندرك تجذُّر هذه الحِرف اليدوية في تاريخ المدينة ومهارة أهلها (النسيج، الفخار، الخياطة والتطريز، الأحذية، الألياف النباتية)، لكننا سنكتشف أيضا الأثر السلبي للسوق الأوروبية عليها، إذ ستعجز الصناعات اليدوية التي تحتاج إلى خبرة وصبر وإتقان عن منافسة المنتوج الأوروبي في الأسواق؛ وهو ما سيؤدي إلى التراجع التدريجي لعدد الحرفيين، ولم تغفل الكاتبة إدراج أهم الأسواق التي كان أهل ندرومة يسوِّقون فيه منتوجاتهم.

الكتابُ ثريّ بمعلوماته عن مدينة ندرومة، يهم القارئَ المختص وغير المختص، والجميل في هذا النوع من الكتابات التي تستهدف الكشف عن التحولات داخل حاضرة محددة، أنها ترسم لك الواقع المتحرك كأنك تنظر إلى التغيرات وهي تعبُر في مجرى التاريخ.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!