صحوة السودان .. وصخرة أنغولا
هل صحونا من نشوة السودان الكروية التي جعلتنا سكارى وما نحن بسكارى؟ وهل أفقنا، نحن الجماهير، المخدرة مع اللاعبين والمسؤولين، من أحلام اليقظة التي أوقعنا فيها ملعب المريخ، بتأهلنا لكأس العالم؟
-
أيّا كانت الإجابة، فقد دفعنا ثمنا باهظا نتيجة الانتصار، ولا زلنا ندفع تبعات هذا الحدث العالمي من بعض الإخوة الأشقاء، وبعض الأعداء الألداء.
-
فليس يسيرا على بعض ذوي النفوس المريضة، قبول تأهل فريق عربي واحد، سيكون العريس العربي في عرس العالم الجماعي بجنوب إفريقيا. وكنا نأمل أن يستقبلنا الأشقاء بالزغاريد والأحضان، ويقابلنا المنصفون من الأعداء، بالاحترام والاطمئنان، وكان علينا -في زحمة كل هذا- أن يكون نصر السودان، حافزا لنا على إثبات المزيد من التأهيل وإثبات الذات، لنبرهن للشقيق، والصديق، والرفيق أننا أحق بالسير على الطريق. ولكن تحطمت آمالنا أو كادت، على أول صخرة، “فلو ذات سوار لطمتني!”.
-
فلو أني بليت بهاشمي خؤولته بنو عبد المدان
-
لهان علي ما ألقى، ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني.
-
أحدث كل هذا لأننا دخلنا معركة أنغولا بغير إعداد وعدة، فلم نصمد أمام حرارة الطقس أطول مدة، ولا أمام مهارة الخصم -على ضعفه- وما أبدى من شدة. لم يشفع لنا تدريبنا على سفوح جبال الألب، وما غمرت به ثلوجها لاعبينا ومدربينا من قسوة وبرودة، ذابت كلها من أول احتكاكنا، بصخرة لواندا.
-
وانهزمنا هزيمة نكراء، وأطلقنا بذلك العنان لأقلام وألسنة حاقدة لتنهش أعراض فريقنا، وتزرع ما طاب لحقدها من الأشواك في طريقنا.
-
وحتى في إعلامنا، ضاقت الأنفاس، وبلغت القلوب الخناجر، وظننا بالمنتخب وطاقمه الظنون، فوصفوا بما يشبه السراب الخادع، والثئران الهائجة، والخراف الشاردة، وما ذاك إلا لأننا تعثرنا في أول خطوة، وأضعنا ما بقي فينا وفي جماهيرنا من نشوة.
-
وليس العيب أن نسقط، ولا أن نتعثر، ولكن العيب كل العيب، أن نكرر العثرات، أو أن نبقى ساقطين. ولم تكن عثرتنا نهاية العالم، ولكنها كادت تكون نهاية إفريقيا في مشوار فريقنا العالمي.
-
لقد انتصرنا، ولو أن انتصارنا يعود الفضل فيه إلى شعار “وَانْ، تُو، ثْرِي، فيفا مالي ومالاوي”، ولقد تأهلنا للدور القادم ولكن، تأهلنا جاء بوجه شاحب، ورجل عرجاء، ونكهة يمتزج فيها السكر والملح.
-
أقول هذا، وأنا لست خبيرا في كرة القدم، ولا أنا من مرتادي الملاعب، ولكنني أكتب بدافع من شعور وطني هو حمى أصابت كل الناس، وبدافع من فضول علمي وإعلامي يجعلني أعالج الأمر من منظور موضوعي، بعيدا عن كل شوفينية، وعن كل تعصب أعمى، وهو ما أصبحنا نصطدم به داخل وطننا وخارجه.
-
وإذن -الآن- وقد هدأت النفوس قليلا، وطوينا صفحة الصخرة التي أدمت رؤوسنا، أفلا يحق لنا، أن نخضع كل التجربة لمزيد من التقييم، وأن ندخلها إلى غرفة العمليات، لنضعها على المشرحة، ونجري عملية جراحية، دقيقة وعميقة، موجعة ومولعة، وللقيام بذلك يمكن أن نستخلص من تجربتنا بعض المعاني التالية:
-
1- ليس من الإنصاف غمط جهود شباب فريقنا الوطني، الذي أبلى بلاء حسنا دفاعا عن ألوان وطننا، فاستهان بكل الصعاب المادية والنفسية، وأقبل على إدخال وتطبيق أنواع من الخطط الهجومية والدفاعية، وهو ما مكن من تقليل الخسائر بعد المقابلة الكارثية الأولى.
-
2– ربما كان منتخبنا الوطني، ضحية مغالاة الجماهير الشعبية، التي بالغت في تقديسه بعد الفوز على مصر، فأدخلته في حمى الغرور، التي جعلت كل لاعب يشعر بأنه ضروري، ولا يمكن الاستغناء عنه.
-
3- إن طغيان العنصر المالي الإغرائي في التعامل مع اللاعبين، يوشك، أن يفسد الوجه الرياضي للفريق الوطني، ويتحول إلى عامل إعاقة على حساب الشعور بالانتماء الوطني، معنى أذلك أن إغراء اللاعب بالمال ليكسب النصر، أشبه ما يكون بإغراء مناضل الحزب بالمنصب والجاه، وهو ما يمكن تشبيهه بإغراء الطير بالحَب أو السمكة بالطعم.
-
4– لا بد من إحداث قطيعة مع ممارسات الماضي، وتبني منهجية الاختيار الواعي الحر، لطريقة التدبير، والتسيير والتغيير، بعيدا عن كل ضغط أو تدخل.
-
حقا إننا نملك مادة خام طيبة، لفريق وطني مختار، ولكننا نوشك بتصرفاتنا، سواء باستغلال انتصاره سياسيا، أو زيادة أطماعه ماليا، نوشك أن نحوله إلى فريق محتار، يعاني الألم الرياضي، والوجع الكروي، والصداع التسييري، وهو ما لا يؤهل فريقنا للذهاب بعيدا في الطريق الدولي السيّار.
-
إن شعبنا الجزائري الذي هو شعب المعجزات، قد عودنا على إحداث المفاجآت السارة، في كل ميادين الحياة، وهو ولا شك قادر على بناء وتعزيز فريق وطني، في مستوى جهاد وسمعة الجزائر، يكون متميزا بطهارة الذمة، وأصالة المرجع، ووحدة الشعور، وتجدر الوعي.
-
إني بالرغم من أميتي في علم قوانين المعاني الرياضية، وبالرغم من ضحالة زادي في هيكل البناء الاستراتيجي للمستقبل الكروي، فإنني أستطيع القول، بأن صحوة السودان قد صنعها فينا الشعور بالتحدي، الذي كان حافزا لنا على التصدي. كما يمكنني القول بأن صخرة أنغولا الفولاذية إنما طبعتها المعادلة الإفريقية الصعبة التي صنعتها فرق النخب العالمية التي يمثل الإفريقيون فيها، قوة الصدع والردع.
-
لذلك فإنه يمكن اعتبار الخطوة الأولى التي خطوناها في أنغولا، انتصارا على صخرة أنغولا التي كان البعض يتمنى أن تتكسر فيها، جبهتنا، ولكننا صمدنا فحصدنا.
-
والآن، نعتقد أن على المدربين كل من موقع مسؤوليته، وعلى اللاعبين كل من موضع لياقته ولباقته، أن يتأملوا التجربة الأنغولية بكل شجاعة وواقعية، فيدرك الجميع أن ما بقي فيها هو الأصعب والأهم، كي نخوض الأدوار الباقية بروح قتالية جديدة، ووعي فدائي أكبر. فما انبثق من مصفاة الدور الأول لا يمكن الاستهانة به، ولذلك لا بد من إعداد العدة، لمواجهة الأقوى والأنكى من الفرق، فنثبت للجميع أننا بلغنا درجة التأهل لكأس العالم باستحقاق، يجب أن يترجم في ساحة الميدان.
-
كما يجب على جماهيرنا الشعبية المخدرة أن تفيق من نشوتها، فلا تشغلها كرة القدم، عن معاناة الألم، ولا الملاعب، عن المتاعب، ومواجهة المصاعب.
-
نريد لمحراب الرياضة أن يظل عفيفا ونظيفا، فلا يدخله إلا المطهرون من رجس المناورات والمؤامرات، فيشب في ظلاله، جيل يؤمن بالجزائر وطنا وانتماء، لا شعارا وغناء، وبالرياضة ثقافة ونظافة، لا ملعبا ومكسبا. ومن هنا يجب تطهير أغانينا الحماسية من لوثة العجمة والرطانة التي تشوه صورتنا، وتقزم ثورتنا وتقدمنا للحاقدين والحاسدين في صورة المتمردين على الأصول، الناكرين لجهاد الأبطال والفحول.
-
إن الرياضة ثقافة عقول، قبل أن تكون حركة أقدام في ملاعب وحقول، فلنحرص على تربية الجماهير على الأخذ بالأفضل فيها، فنهذّب سلوكهم، ونرقق شعورهم، ونوحد وعيهم وصفوفهم.
-
وإذا كانت مقابلة السودان قد ولدت فينا النخوة والصحوة، بدل النشوة والغفوة، فإن أنغولا، قد جعلتنا وجها لوجه أمام مواجهة الصخر بكل فخر، وما بين الصحوة والصخرة، يجب أن نعيد تجديد النظرة والقدرة كي يتأهلوا.