الرأي

صدقتْ الجزائر وكذب يهودُ العرب!

منذ إعلان الرئيس عبد المجيد تبون رهان جمع الصف العربي كشرط لاحتضان القمّة العربية المرتقبة، وتمهيده لذلك بمبادرة التقريب للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية حتّى تحرَّكت عواصم التآمر العِبْري في المغرب والمشرق، لإجهاض المسعى الجزائري القومي الصَّادق في لمّ الشتات الممزق، حيث أطلقت العنان لأبواقها المأجورة مثل الكلاب المسعورة، فراحت ترمي الدبلوماسية الجزائرية زُورًا وبهتانًا بـ”العجز” و”التحيّز”، بينما تتكفّل بلاطات الخيانة بوضع العصا في العجلة، منْعًا لأيّ جهد جزائري صادق في التئام الجرح العربي.

لذلك، لم يكن قطّ بالمفاجئ تصريحُ الأمين العامّ المساعد، حسام زكيّ، عن تأجيل القمة إلى موعد سيتم التوافقُ بشأنه خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في 9 مارس المقبل، لكن الزّور المفضوح هو تحميل دُويلات الشرّ والغدر الجزائر مسؤولية ما يعتبرونه “فشلاً”، بل “تعمّدا” مزعومًا، لـ”عدم توفير شروط التوافق لجمع القادة العرب على مواقف مشتركة”.

لقد أشارت التسريبات الدبلوماسيّة المتواترة إلى قضايا خلافيّة جوهريّة بين العواصم العربية، وتتعلّق أساسًا بتمثيل سوريا وليبيا والسودان في القمّة، ثم الموقف من التدخُّل الإيراني في المنطقة العربيّة، دون إغفال ملف المصالحة الفلسطينية وعلاقة التوتّر بين الجزائر والمغرب، ومن المهمّ الوقوف عند هذه المسائل العربيّة لتحديد المسؤوليّات بوضوح.

إنّ الموضوعيّة تقتضي تشريحَ تلك الأزمات القُطريّة من صنعاء إلى الرباط، مُرورًا بدمشق وبيروت والخرطوم وطرابلس، حيث تقع مسؤوليّة الدمار والفوضى والانقلابات ومشاريع التقسيم الصهيو-غربيّة على عاتق دول عربيّة معلومة، بينما سعت الجزائر بكل ما في وُسعها القومي والدبلوماسي والأممي إلى الحفاظ على وحدة الأقطار العربيّة وسيادتها واستقرارها، بغضِّ النظر عن المواقف المتباينة من الأنظمة السياسيّة العابرة.

إنّ هذا المبدأ الواقعيّ الواضح هو الذي جعل الجزائر ترفض محاصرة النظام المصري بعد إزاحة الرئيس محمد مرسي، رحمه الله، بل بذلت جهدها الدبلوماسي لفتح الباب أمام القاهرة في هياكل الإتحاد الإفريقي، رفضًا لأيّ ضرر قد يلحق بدولة عربيّة شقيقة، وهي نفس الرؤية التي تحكم موقفها اليوم من الدولة السوريّة والليبيّة والسودانيّة واليمنيّة، في حين يحدد الآخرون مواقعهم داخل الخارطة العربيّة وفق حسابات خاصّة وضيّقة، وأحيانا في إطار المناولة الوظيفيّة للكيان الإسرائيلي ومراكز الثقل العالميّة.

أمّا الحديث عن الموقف من سلوك النظام الإيراني تجاه الجغرافيا العربيّة فهو محلّ إجماع، ولا يمكن لأحدٍ أن يزايد على شفافيّة الجزائر بهذا الصدد، لكن بالمقابل ماذا عن إدانة باقي التدخلات العربيّة التخريبية في دول الجوار الشقيقة؟ فإذا كان تصرّفُ طهران مشجوبا بلا خلافٍ، فإنّ إيذاء ذوي القربى أشدّ مضاضة.

بقي التصرّفُ المشين من نظام المخزن الذي تغضّ عنه عواصمُ التطبيع وأبواقها النشاز الطرْف لتشَارُكِها في نفس الجريمة، وهي موالاة الصهيونيّة ضد الأشقاء وخذلان القضيّة المركزيّة للأمّة، لذلك لا يجرؤ هؤلاء الحلفاء على إدانة المغرب في علاقته العدوانيّة بالجزائر، بل إنهم يحجبون الحقائق في وضح النهار بقذفها بخيار القطيعة، والذي لم يكن في الواقع إلا موقفا اضطراريّا وقائيّا من الدسائس المخزنيّة الصهيونية، والمطلوب هو كفّ المملكة عن أسباب التوتّر المزمن وليس إكراه الجزائر على القبول بالأمر الواقع.

نعلم أنّ تحرّك الجزائر في اتجاه الملف الفلسطيني قد أزعج الكثير من عواصم الوصاية غير المجدية على القضيّة، بل هي بشهادة القاصي والداني من يقف وراء الانقسام الداخلي ويغذّيه بكل الوسائل، ولم تكن مبادرة الجزائر سوى نيّة صادقة لتقديم ما يمكن تقديمُه لإنقاذ قضيّة تعتبر نفسها شريكة تاريخيّة لها وليست مجرد داعمة من بعيد، دون أن تزاحم أحدا في ذلك، لأنها تبذل من رصيدها دون أجندات خاصّة ولا أغراض سوى مساندة الشعب الفلسطيني في معركة التحرير الوطني.

إنّ كل المعطيات السالفة الذكر هي ما يؤجج حسابات الأعداء والوكلاء والمنافسين والمتوجِّسين من عودة الدور الجزائري المتقدّم على المشهد العربي، ويدفع بهم مُجتمعين إلى عرقلة المساعي في عقد قمةٍ عربيّة في مستوى تطلعات الشعوب ورهانات المرحلة.

إنّ من أغرب السفاهات التي أطلّت بها صحيفة “عبريّة” تصدر باسم العرب من لندن، في تعقيبها على تأجيل القمّة، هو قولها إنّ “النظام الجزائري ما زال يعيش في عالم الشعارات.. عالم آخر لا علاقة له بالعالم العربي الموجود حاليا”؟!

ولا شكّ أنّ هذا المنبر المموَّل من عرّابي التطبيع لم يخالف الحقيقة دون أن يقصدها؛ إذ أن الجزائر الثائرة، قيادة وشعبًا، هي دولة من زمن المبادئ الأخلاقيّة والقوميّة العربيّة وحِلف الأحرار في كل مكان، لم يغيّرها عهدُ الخيانات والدولارات والنظام العالمي الجديد، ولن تدخل حظيرة القطيع بأوامر العبيد، ولن نبلغ يومًا من الهوان مبلغا يسمح لمنتفخين بريع النفط بإملاء السياسة الخارجية على بلادنا، أو تلقينها ما يجب فعلُه، فنحن دون غيرنا من العرب منْ استعاد أرضَه بالدماء الزاكيات ويوم وقفنا ببسالة في وجه فرنسا وحلفها الأطلسي تحرّرت أقطارُ الآخرين.

مقالات ذات صلة