-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

… صدق وهو الكذوب

… صدق وهو الكذوب

منذ سنوات خلت، وفي إطار النشاط النضالي، الإعلامي المتوقد الذي برع فيه الوطن العربي منذ منتصف القرن العشرين، وعشنا أوهامه عبر سنين وسنين، انطلق ثلاثي غنائي يضم أمل عرفة وجوليا طبرس وسوسن حمامي بأنشودة وطنية حماسية تجنيدية تقول: “وين الملايين – الشعب العربي وين”.
هذه الأغنية يجب أن تتصاعد صيحتها اليوم لتكون نشيدنا القومي الذي يردّده صباحا ومساء وليلا كل صوت عربي، مسلما أكان أم مسيحيا، وسنيا كان أم شيعيا، وأرثوذوكسيا كان أم غير ذلك.
وصدق ناتنياهو عندما قال عن السابع من أكتوبر، إنه يوم أسود على إسرائيل، ونأمل أن تزداد بقية الأيام سوادا عليه وعلى آله وأصحابه وحلفائه بعد أن أثبتت المقاومة الفلسطينية، بقيادة “كتائب القسام” خلال يوم واحد، أن ما كانت تنادي به منذ الأربعينيات من أن المواجهة الفعّالة للكيان الاستيطاني الصهيوني ليست في حشود القوات المسلّحة النظامية، وطوابير أسلحتها المموّلة من قوت الشعوب، بقدر ما تجسّده المقاومة الشعبية التي أكدت فعاليتها في جنوب شرقي آسيا وخصوصا في الفيتنام، ثم في المغرب العربي وخصوصا في الجزائر.
وعندما نسمع الرئيس الأمريكي يعطي إشارة الضوء الأخضر للكيان الصهيوني، وهو المعتدي، لكي “يدافع” عن نفسه، نفهم بكل وضوح أنه يحضه على ممارسة عملية تقتيل واسعة للشعب الفلسطيني، لأنه يشكّل اليوم آخر قلعة صمود ضد طغيان الاستعمار الغربي القديم الجديد، وبهذا، نتحول جميعا إلى “هنود حُمر” جُدُد، ويستريح الشمال إلى الأبد من الصداع العربي الإسلامي، وتطمئن الاحتكارات العالمية على مصادر ثروتها عند أهل الكهف، الذين سيكونون حراسها لمصلحة مخططي السلام الإبراهيمي.
وهنا يجب أن نصرخ: “وين الملايين؟”.
فعندما نقرأ تصريحات دول عربية تطالب الطرفين بضبط النفس، بدون أن توجّه إدانة بسيطة للمعتدي الذي أشعل النار بتصرفات إجرامية عبر سنوات وسنوات، تصرفاتٍ أكدت أن الحديث عن مدنيين لا يمكن أن ينطبق على “أشكيناز” إسرائيل وسلالتهم، لأن من يوجّه فوهة البنادق ضد مرابطات الأقصى لا يمكن أن يُعتبر مدنيا، وعندما تتعالى أصوات ذا الحياد البليد، ندرك أن هناك تواطؤا يعلم الله مداه، خصوصا وكلام بايدن المستفز الوقح يدين الولايات المتحدة التي لم تشِرْ، ولو على استحياء، للمدنيين الفلسطينيين الذين يسحقهم القصف الإسرائيلي، ولم تتحرك واشنطن وحلفاؤها طوال العقود الماضية لتحجيم التوسّع الاستيطاني في الضفة الغربية أو لتطبيق قرارات الأمم المتحدة أو حتى لمنع الاستفزازات الصهيونية في الأقصى.
والمهم الآن هو أن الأيام القادمة ستكون بالغة الصعوبة على الشعب الفلسطيني، لأن إسرائيل هي الآن وحش جريح أحمق، بعد أن أصابت المقاومة الفلسطينية نقطة ضعفها الرئيسية وهي كرامتها، إذا صحّ أن يُسمّى الغرور الشوفيني كرامة، ودمرت اعتدادها بأنها وجود راسخ لا يُقهر، يملك أقوى مخابرات في العالم، وأضخم ترسانة عسكرية في المنطقة، وأوسع تضامن دولي، ناهيك عن تضامن حكومي عربي… أحس بالخجل وأنا أشير إليه.
وهنا يفرض نفسه على كل من لديه ذرة إباء وعزة وكرامة نداء: “وين الملايين”، ليكون الصرخة التي يجب أن نردّدها جميعا، من المحيط إلى المحيط، ليسمعها حتى كل من يضعون أصابعهم في آذانهم، حذر الصواعق، ولتتحول كلمات الأنشودة إلى سياطٍ تجلد أصحاب الأصوات التي تخفي جبنها بالحياد وخذلانها بادعاء الحكمة وتواطؤها بالحياد المشبوه.
وحقيقي أن هذا النداء لن يوقظ أركان جامعة الدول العربية، فما لجرحٍ بميت إيلام، لكن ترديده ومواصلة ترديده ليكون نشيدا وطنيا سيقنع جماعة السلام الإبراهيمي بأنهم يسيرون عكس تيار التاريخ، وبأن واشنطن، التي تخلت بالأمس عن شاه إيران، أقوى حلفائها في المنطقة، لن تكون إلى جانبهم إذا بدأت الشعوب في التململ من الإهانات التي توجّه لكرامتها، بعد أن استطاع الكيان الصهيوني أن يضع عناصره في مواقع عبر مؤسساتها تمكّنه من التحكم في إرادتها.
وكلام ترامب الذي وُجّه للبعض كان أكثر من واضح، وهو يُمثل رأي الشمال وإرادته، وموجّه للجميع بدون استثناء.
والذين تابعوا لقطات رجال المقاومة وهم يخترقون الاستحكامات الصهيونية ويدمرون دبابات “الميركافا” ويجرجرون جثث قتلى العدو ويسحبون أسراه من أقفيتهم، سيدركون أن شعبا استطاع، رغم سطوة الأعداء وتراخي الأصدقاء وجبن الحلفاء ونقص الإمكانيات، أن يفرض على رئيس وزراء إسرائيل أن يعترف بأن الكيان يعيش يوما أسود، وبأن أياما صعبة تنتظره على يد شعب شبه أعزل، هو فعلا شعب الجبّارين.
والمقاومة الفلسطينية تقول للشعب العربي من المحيط إلى المحيط: “وين الملايين؟” بعد أن أصبح واضحا أن الكيان الصهيوني يحاول تجنيد العالم كله ضدها، والخطاب البكائي لناتنياهو لا يخرج عن أن يكون نفس الأسلوب البكائي الذي برعت فيه الصهيونية العالمية لاستجداء الدعم، برغم أنه يثبت أن إسرائيل النووية هي أضعف من حركة مقاومة شعبية لا تملك بعض ما تملكه هي من إمكانيات تفوق الخيال.
وهذه هي ساعة الحقيقة، فإما أن يثبت الشعب العربي بأنه شعب حقيقي يستحق الحياة، وإلا حُكِمَ عليه إنسانيا وتاريخيا بأنه مجرد تجمعات سكانية من مستوطنين يرون في الوطن مجرد فندق يجمع شتاتهم، وسوف يعيشون أبد الدهر “بين الحُفر”، يغنون أناشيد “أبو القاسم الشابي” بدون أن يفهموا أنها تدينهم إلى الأبد.
وربما كان السؤال الذي سينطلق من أفواه البعض، وأحيانا على سبيل التعجيز: “ماذا يمكن أن نفعل على وجه التحديد؟”
وأنا أعترف، ودماء الأحبة في أرض القبلة الأولى تسيل أنهارا وأشلاؤهم تتناثر في كل اتجاه وصرخات أطفالهم تشتبك مع آنات الجرحى وقرقعة انهيار البيوت، بأن عمامة الناصح أكبر من رأسي، لكنني أتخيل أن الخطوة الأولى هي اليقظة الشعبية العامة التي تتناسى تفاهات الحياة اليومية، ثم تحرك كل التنظيمات الشعبية لتطلب من كل حكوماتنا مواقف أكثر رجولة ومن تجارنا تصرفات أكثر أخلاقية ومن شبابنا تحركات أكثر حيوية.
ولنعلن جميعا سقوط حل الدولتين، ونطالب بفلسطين واحدة موحّدة من النهر إلى البحر، وهو ما سوف يعني سقوط مشروع إقامة الدولة اليهودية، ووضع الدول الكبرى في الوضعية الحرجة التي تفرض عليها التراجع عن دعم كيان يُبنى على أساس ديني، متناقض مع علمانيتها المزعومة، وتدفعها إلى إنقاذ ما تقدر على إنقاذه من مصالح حيوية لها في الشرق الأوسط بتلجيم التحرك الإسرائيلي، الذي سيحاول أن ينتقم لنفسه باستعمال أبشع أدوات القمع والتقتيل ضد الشعب الفلسطيني.
الأسبقية الآن يجب أن تتركز على حماية الشعب الفلسطيني من تفجّر الجنون الإسرائيلي الذي عرفناه في كفر قاسم ودير ياسين وقانا وعشرات المواقع الأخرى التي سُوّيت بالأرض، ويجب أن ندرك أن دماء وأشلاء كل من سيسقطون من أبناء فلسطين، رجالا ونساء وأطفالا، وبغض النظر عن أي انتماء سياسي أو مذهبي، هي في عنق كل منّا، حكاما ومحكومين، كبارا وصغارا، نساء ورجالا.
ولقد حدّدت بأن واجب التحرك يقع أولا على كاهل التنظيمات الشعبية، لأن الحكومات بشكل عام عاجزة عن اتخاذ أي مبادرة، وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية والوهمية والمفتعلة.
وفي هذا الإطار، يجب أن تسقط مقولة أننا نقبل بما يقبل به الفلسطينيون، لأن هذا هو مبرر أضعف الإيمان، ولا مجال اليوم إلا لأقوى صور الإيمان بالله وبالوطن، فالسلطة الفلسطينية أضعف من أن تتناقض مع الخط الذي رسمته “أوسلو” والذي تم التعبير عنه بكلمة “كادوك” CADUQ ولن أقول أكثر، فلَوْمُ الجريح وعتابه، ناهيك عن تعنيفه، ليس من شيم الكرام.
رحم الله الشهداء، ولنصرخ معاً.. وين الملايين.. الشعب العربي وين؟.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!