-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

طوفانُ الأقصى وقواعد التغيير

التهامي مجوري
  • 281
  • 0
طوفانُ الأقصى وقواعد التغيير

لقد قُدِّر لطوفان الأقصى أن يكون طوفانا على يد حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة، رغم أن المقاومة المسلحة هي آخر وسيلة يُلجَئ إليها في العادة، عندما تستعمل كل الوسائل ولا تؤتي ثمارها، وكما مر معنا في مقال سابق فإن هذا الخيار كان نتيجة فشل الوسائل السياسية الأخرى، سواء بسبب تعنُّت العدو أو بسبب تخاذل الصديق فالنتيجة واحدة، وكما قيل قديما “آخر الدواء الكي”، ومع ذلك فإن المقاومة المسلحة، على شدّتها وصعوبة مسالكها، تبقى الحل الأمثل للحالات المستعصية على الحلول السلمية كما هو الحال مع القضية الفلسطينية، وينطبق عليها من مناهج ووسائل التغيير ما ينطبق على غيرها، مع فارق في أدوات التحرك السلمي وادوات المقاومة المسلحة.

أولى شروط حركة التغيير والمقاومة مهما تعددت أسماؤها وتنوعت ثلاثة وهي: الإرادة، والوسائل، والهدف.

وهذه الشروط الثلاثة قد حقّقتها المقاومة في فلسطين في مسيرتها الطويلة، لتصل بها إلى عملية طوفان الأقصى التي هزت العالم اليوم.

الإرادة في وسط شعب أعزل محتل، ومحروم من بلده؛ بل وبعضه محروم من دخولها، تحصيل حاصل، ومن المسلَّمات التي لا تناقش، ولكن في ظل هذه الصراعات الدولية والتكالب العالمي على إرضاء المحتل الصهيوني، جعل الكثير يتساقطون تحت ضغط سلطة الاحتلال الصهيوني وترغيبه وترهيبه لهم، وفي ظل التآمر العربي المفضوح، حول شرائح من الشعب الفلسطيني، يستسلم للأمر الواقع، وعبر التنازلات المعروفة بمسميات كثيرة: السلام والمفاوضات والطروحات المختلفة، كاد يفقد تلك الارادة التي هي تحصيل حاصل.

ولكن المقاومة بإصرارها على نهجها الذي تبنَّته، وبفضل وضوح رؤية نواتها الصلبة لم تخضع، ولم تغفل عن حقائق الأشياء، ومنها وأهمّها لأن فلسطين محتلة ولا بد من تحريرها، ولكن كيف؟ وبأيّ وسائل أمام هذه القوى من الصواريخ والتفوق المذهل للتكنولويا والآلات الحربية المتفوقة جدا؟

والإجابة عن هذه التساؤلات يجيب عنها الميدان انطلاقا من الإرادة القوية، وهي أن التحرير هو الحل، ولذلك لم تؤمن المقاومة بأيِّ طرح تلوكه ألسنة السياسيين، لا باسم السلطة الفلسطينية، ولا بعنوان حل الدولتين، ولا في ظل الدولة اليهودية…

وعندما تكون الإرادة الصلبة ووضوح الرؤية في إطارها، تضعف شرعية العدو والخصم، وتسقط هيبة جميع القوى المواجِهة للحقيقة؛ لأن الحق لا يقاوم إلا بالحجج الصادقة والصحيحة، والاحتلال لا يمتلك ذلك فضلا عن عرابيه والمؤتمرين بأمره.

صحيحٌ أن القوة والتفوُّق المادي والمالي والتأييد الدولي ينال من العزم والهمم العالية، ويحاول تطويعها و”تهذيبها” لصالح طروحاته، ولكنه يذوب أمام الحقائق التي ينبغي أن لا تضيع، ذوبان الملح في الماء… فكل قوة مسبوقة بضعف، وكل غنى مادي ومالي مسبوق بالفقر والحاجة، وكل تأييد لا يُنال إلا وفق مستوى من مستويات المصلحة في العلاقات الدولية. وصاحب الإرادة القوية والقضية العادلة في العادة يفهم كل ذلك؛ بل ويؤمن أشد الإيمان بأن جميع النقائص التي تطارده، قابلة للإزالة بمجرد الإرادة كمبدإ والإصرار كمنهج في ذلك، لأن الضعف يتحول إلى قوة، والفقر يتحول إلى غنى، وتحييد أرباب المصالح وكسبهم مرهون بمدى قوة الفكرة وعدالة المسألة، والضمانات المفترضة تتحقق وترتقي تدريجيا من مستوى معين إلى مستوى آخر من المستويات.

والمقاومة رغم أنها لا تمتلك من القدرة على حفظ المصالح لمن يناصرها، ولكنها غير عاجزة عن تحييد بعض داعمي العدو، سواء عبر تثوير الشعوب التي هي مُحبَّة للسلام بطبيعتها، أو بتهديدها في مصالحها، إن كانت من القوى الداعمة للعدو.

وبحكم أن الإرادة لدى الإنسان في أصلها مجرَّد استعداد للعمل والتضحية في سبيل قضية آمن بها، فإنها تحتاج إلى وسائل لمناصرتها وتحقيقها؛ لأنَّ التحدي يفرض استجابة تكون في مستوى التحدي أو أكثر، ومن ذلك الوسائل التي تتحرك بها الإرادات لتحقيق مبتغاها. والوسائل التي يجب توفُّرُها هي الوسائل الجديرة بتحقيق المطلوب، وهي ليست مجرد وسائل مادية ومعنوية، يمكن استنساخُها من أي تجربة سابقة أو أيّ جهة كانت، وإنما لا بد من تكون مبتكرة أو على الأقل مبتكرة في بعض جوانبها وأدواتها، وهي أنواع كثيرة… ففي الحروب مثلا لا يتفوق المقاتل باستخدام الآلات المستعمَلة؛ لأن كل سلاح استُعمل استنفد فاعليته التي كان عليها، ولا يتفوّق بالخطط الحربية المعتادة، وإنما يتفوق بالخطط والآلات المبتكَرة، والتي لم يعرفها العدو والخصم على الأرض، ولذلك كانت حرب العصابات من الوسائل القديمة الباقية الأكثر فاعلية؛ لأن المقاوم فيها قادرٌ على إخفاء وسائله، وحرٌّ في استعمالها وفي الكيفية التي يستعملها فيها وبها.

والمقاومة الفلسطينية اجتهدت في إبداع وسائل المقاومة المبتكرة غير المسبوقة، ابتداء من مقاومة المحتل بالحجارة والسكاكين وتثوير الأطفال والشباب في ثمانينيات القرن الماضي، ومرورا بصناعة السلاح، وانتهاء بوضع الخطط الحربية التي حيّرت العالم اليوم.

إن عملية طوفان الأقصى، فوجئ بها العالم وفوجئ بها الاحتلال نفسه، الذي أعلن في الأمم المتحدة، قبل أيام قليلة من عملية السابع من أكتوبر 2023، أنه متحكِّم في الوضع، وحوَّل دولته من دولة محاطة بالأعداء في سنة 1948، إلى دولة في محيط من الأصدقاء والموالين في سنة 2023، إلا ما كان من حزب الله وإيران وسوريا… أما باقي المحيط فهو في القبضة، إما بالعلاقات المباشرة التامة في ظل التوافق السلطوي: الفلسطيني الصهيوني، أو بصيغ التطبيع المتنوعة… بل إنه لم يذكر السلطة الفلسطينية كجهة مستقبلة عنه وعن دولته، وإذا بالمقاومة تقوم بعملية طوفان القصى لتُشعر كل العالم أن إسرائل مهددة في وجودها! والاضطراب الذي عاشه الصهاينة وخاصة في الأيام الأولى للعملية يوحي بذلك، بكثافة الرحلات اليهودية من داخل فلسطين المحتلة إلى خارجها، وبكثرة الكلام والكتابة عن زوال الكيان الصهيوني، وبظهور الخلافات الداخلية؛ بل إن رئيس وزراء الكيان الصهيوني مهدد في شخصه إذا أوقف الحرب سيدخل السجن، وذلك لما على أكتافه من جرائم في حق أهله من الصهاينة….

عملية طوفان الأقصى، فوجئ بها العالم وفوجئ بها الاحتلال نفسه، الذي أعلن في الأمم المتحدة، قبل أيام قليلة من عملية السابع من أكتوبر 2023، أنه متحكِّم في الوضع، وحوَّل دولته من دولة محاطة بالأعداء في سنة 1948، إلى دولة في محيط من الأصدقاء والموالين في سنة 2023، إلا ما كان من حزب الله وإيران وسوريا… أما باقي المحيط فهو في قبضته.

لقد تفوّقت المقاومة في ابتكار وسائلها أيما تفوُّق، فضربة “الجيش الذي لا يُقهر” وأسر جنود منه في مواقعه المحصَّنة بأحدث الأسلحة وكامرات المراقبة ووسائل التحسُّس، بوسائلها الخاصة التي من صنعهم وليست من الأدوات المستورَدة، وبطرق استخباراتية مبدعة أوصلتهم إلى أخص خصائص العدو ومؤسساته الأمنية.

لا شك أن كل ما تقوم به المقاومة اليوم لا يتجاوز برامج حرب العصابات، وحرب الشوارع كما يقال، ولكن ما أحدثته المقاومة الفلسطينية تجاوز علميات “أضرب واهرب”، إلى مقاومة العدو ومهاجمته، وفرض الإرادة الحرة؛ بل فرضت على العالم أن يتعامل مع القضية بأساليب أكثر جدية، وليس كما كان من قبل، لا يراعي إلا الإرادة الصهيونية، وبدرجة أقل بكثير خيارات السلطة التي هي من مشتقّات الخيارات المخذولة والمستسلِمة للكيان الصهيوني.

لا شك أن الثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني اليوم باهظ، بعد أربعة أشهر من التدمير والتهجير والإبادة، ولكن ما حققه هذا الشعب بصبره وثباته ومقاومته الباسلة، قد أعاد قضيته إلى واجهة العالم اليوم، وكشف عن الوجوه الشاحبة فأظهرها على صورتها الحقيقية… فحل الدولتين الذي أخفته الأيام، ظهر بقوة هذه الأيام لعل العالم يجد به مخرجا! والرفض الصهيوني للدولة الفلسطينية الذي لم يعرف إلا في أروقة ضيقة جدا… انكشف أمرُه بوضوح يراه الأعمى.. ولكن ها هي الأيام تكشف عن ذلك بضوح… وما على المتخاذلين إلا مراجعة مواقفهم من القضية فهي فرصةٌ لهم وللعالم للبت النهائي في أقوالهم وأفعالهم.

والنقطة الأخيرة في قواعد التغيير هي الهدف، وهو في ذهن المقاومة، متمثلٌ في تحرير الأرض من العدو الصهيوني، وتشكَّل هذا الهدف في ذهن رجال المقاومة كقضية إيمانية مفادها أن زوال إسرائل حتمية تاريخية، وليس مجرد احتلال يمكن أن يتحول إلى تعايش تفاوضي تلتقي فيه الشعوب والأعراق، بقطع النظر عن أهل الأرض وأصحابها!

ومن بركات عملية طوفان الأقصى أنه أشاع تعميم هذا المبدأ والهدف على أوسع نطاق، وحوَّله من مجرد قناعة في أوساط ضيقة من المناضلين، إلى قضية ذات شرعية لها قواعد حلِّها المختلفة عن طروحات العالم كله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!