-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ظل الجزائر في مجلة “الفكر” التونسية

ظل الجزائر في مجلة “الفكر” التونسية

مع ترامي أعداد مجلة “الفكر” التونسية الشهرية ظلت صفحاتها دوحة للفكر المهذب الرفيع وروضة للأدب الآسر الساحر وواحة للمناقشات الفكرية الهادئة والهادفة. وقد قدمت هذه المجلة في حليتها الرشيقة اللطيفة وقدّها البهي الظريف، وعلى مدار مسار زمني غير متقطع وطويل، قدمت لقارئ لغة الضاد الشريفة وخاصة في بلدان المغرب العربي خدماتٍ تثقيفية بواهظ لا ينكرها إلا جاحد في زمن كانت فيه الكلمة المنقوشة على سطوح الأوراق هي صاحبة الوجاهة وسيدة الموقف في التداول والتواصل.

في غرة أكتوبر من سنة 1955م، أي قبل استقلال تونس بقليل، أقدم الأستاذ الوزير المثقف محمد مزالي (23 ديسمبر 1925ـ 23 جوان 2010م)، طيب الله ثراه، وبمعية ثلة من الأساتذة المرموقين والأدباء المتميزين على بعث هذه المجلة التي سارت في موكب الثقافة مدة بلغت واحدا وثلاثين سنة حتى أرغم قمرها على الخسوف في شهر جويلية من سنة 1986م في ظرف تاريخي ضبابي وناقم وانتقامي. وهو ظرف استعملت فيه المخاتلة والخداع، وشحذت فيه ألسنة النميمة وسنت سكاكين الغيبة الملوثة بسواد الغيرة والكراهية، وانتهى إلى إبعاد الأستاذ محمد مزالي من دواليب الحكم، وفرض عليه الخروج هروبا من وطنه متخفيا في دجى الليل حتى لا يقع فريسة سهلة للأذى بين أيدي حسَّاده. وأُخذت مجلة “الفكر” عدوانا بجريرة صاحبها المفتعَلة، وسُقيت من نفس الكأس العلقمية المرَّة التي أشربوه منها في خذلان مبيت وخزي منكوس. وتعرضت للخسوف بعد أن أجبرت على الوقوف.

أرسل لي وزير الثقافة الأسبق، الأستاذ البشير بن سلامة، حفظه الله، الذي كان يتولى منصب رئاسة تحرير مجلة “الفكر”، وكان واحدا من أقلامها البارزين منذ ست سنوات، وبمناسبة مرور ستين عاما عن إصدارها، أرسل لي رسالة حوت أسى مضمورا وزفرة ألم مخفية، وقد كتب في مطلع  سطورها: (وهكذا لم تكن مجلّة الفكر مجرّد نشريّة تجمع جملة من الإنتاج الأدبي والفكري بل كان ما ينشر على صفحاتها، وبالخصوص فحوى افتتاحيّاتها، مستوحيا من منهج يعتمد أقانيم ثلاثة: الإنسانيّة في مجالها الرّحب، والوطنيّة في عزّتها وشموخها، والشّعبيّة في واقعيّتها الملهِمة، وبساطتها الرّائعة وسلطانها الآسر الغلّاب. وعلى هذا الأساس اختارت المجلّة تسليط الفكرعلى واقع البلاد، وإعمال النّظر في مشاكل الوطن، والاعتماد على النّفس من أجل الظّفر بنمطٍ حياتيٍّ تونسيٍّ صميم يكسب كلّ الأعمال والأقوال معنى. وهذا لا يتأتّى إلاّ بالحرص على إجلاء معالم الشّخصيّة التّونسيّة بإحياء تراث البلاد، واستئصال مركّب النّقص الّذي يعانيه البعض بهذه الدّيار إزاء الشّرق أو الغرب، وبإفساح المجال إلى الشّباب الّذين يحملون قيما جديدة، ويتمتّعون بمواهب لا تنتظر إلاّ التّشجيع والصّقل).

في نفس الرسالة، يرسم كاتبُها عمادها المعياري الذي التزمت به هذه المجلة، وسارت على هداه في قبول مساهمات كتّابها، وزفّها إلى القراء. وبفضله انتصبت كملتقى طرق فسيح لكل الأفكار والآراء والتوجّهات والقناعات والمدارس الأدبية. ولم تكن تُفاضل بين النصوص التي تصلها أثناء ترشيحها للنشر إلا على أساس الجودة والإتقان، والغور في الطرح والمهارة في العرض. وفي هذا الإطار تؤكد سطور رسالته على ما يلي: (وبهذه الصّورة كان التمسّك الدائم بحرّيّة الفكر الّتي هي شرط الأدب الحقّ في احترامٍ لآراء الكُتّاب وشتّى منازعهم ما داموا جادّين ومدركين لتَبِعة الحرّيّة الّتي تنفي الفوضى والسّفاهة العقليّة والمحبّات الغالبة والعبث… ومبدأ آخر تمسّكت به المجلّة وهو السّير، ما أمكن، في اتّجاه الثّورة الإنسانيّة الخلَّاقة التي تجتاح البلاد التّونسيّة آنذاك والحرص على مقاومة قوى الرّجعيّة. وكذلك السّعي في أن تواكب هذه المجلّة في حدود مشمولاتها وإمكانيّاتها الحركة التّحريريّة الّتي بفضلها قطعت تونس أشواطا في طريق الكرامة والحرّيّة).

كانت مجلة “الفكر” بحق بيتا واسعا لا يضيق بمن يقصده للمشاركة الكتابية أو يأتيه متشوقا للنهل والتزود المعرفي. واستطاعت أن تحقق التعدد الفكري الثقافي في بلد سيطرت فيه سياسة شمولية عمياء ومصمتة، وأن تفرض على كل من يجتمعون عليها قبول الرأي المخالف واحترام هذه القاعدة وتجنُّب معارضتها أو مخالفتها. وهو ما يعبر عنه الأستاذ البشير بن سلامة في شق من رسالته لما يقول: (لم تنفكّ الافتتاحيّات تذكّر بأنّ المجلّة ليست مجلّة شخص بعينه أو جماعة ضيّقة بعينها بقدر ما هي ملتقى لأسرة الأدباء والمفكّرين عامّة، ومنبر لكلّ الآراء الصّادقة والأفكار النّيّرة، ومجال لكلّ المحاولات الأدبيّة الأصيلة المبدعة القيّمة، رائدها السّعي في تبيّن الشّخصيّة الأدبيّة القوميّة، وتعزيز مقوّمات الثّقافة الوطنيّة، والمساهمة في إثراء التّراث الفكريّ في الوطن الأكبر، ومبدؤها التّمسّك بحرّيّة التّعبير، والذّود عن حرمة المفكّر الأصيل دون المزيّف المتاجر بأدبه، والإيمان بأنّ النّهضة الأدبيّة المنشودة هي ثمرة جهاد جميع الأدباء مهما كان سنّهم أو أسلوبهم أو نزعتهم أو مدرستهم، وبأنّ معيار تقييم الأثر الأدبيّ إنّما هي قيمته الأدبيّة الذّاتية، بقطع النّظر عن الموضوع، بل بالرّغم عن أهمّيّة الموضوع في العمل الأدبيّ، والإيمان كذلك بأنّ قضيّتنا الكبرى، نحن معشر الأدباء، ليست الأدب الملتزم أو الأدب غير الملتزم مثلا بل هي قضيّة الأدب أو انعدام الأدب).

حملت مجلة “الفكر” على عاتقها مسؤولية النضال بالكلمة النزيهة، ولذا اعتبرت رافدا من روافد الحركة الوطنية التونسية التي ناهضت الاستعمار البليد، وفضحت دسائسه، وعرّت حيله، وكشفت أحابيله وخدعه. ولما اندلعت ثورة التحرير الجزائرية، كانت مجلة “الفكر” وبفضل رصيدها النضالي وتجربها العملية مهيَّأة لتكون سندا وظهيرا لها انطلاقا من توجُّهها القومي الذي يملي عليها واجب المناصرة، واعتبارا لخطها الافتتاحي الإنساني الذي يضادّ الظلم ويقارع الظالمين، وينتصر للضعفاء والمقهورين. وكانت تخصص أحيانا افتتاحيات بعض أعدادها للتطرق إلى الثورة الجزائرية، والتغني بانتصارها الجهادية البطولية، وتتعرض إلى ما تحققه من كسب معنوي من قبل المساندين من مختلف الأقطار في المعمورة والمنظمات الدولية الرسمية والأهلية كما فعلت في افتتاحيات العدد الثامن من سنتها الأولى والعدد الثاني من السنة الثالثة، والعدد الثاني من السّنة الرابعة، ومن بين ما جاء في هذه الافتتاحية الأخيرة ما يلي: (نحبّ أيضا أن نخرج بالقضيّة الجزائريّة من حدود العائلة الإسلاميّة الكبرى وصعيد المغرب الكبير المظفّر إلى دائرة البشريّة المتضامنة حتما في السّرّاء والضّرّاء). وتحدثت في افتتاحيّة العدد الأول من السنة السادسة عن كفاح الجزائر في سبيل التّحرّر من الاستعمار. بينما سجلت افتتاحيّة العدد السابع من السنة السابعة حدث وقف القتال بين الجزائر وفرنسا في 19 مارس 1962 بعد أكثر من سبع سنوات من الكفاح المرير والدّماء والدّموع، وذلك على أساس إجراء استفتاء شعبيّ سيُعلن بموجبه عن استقلال الجزائر شقيقة تونس.

فتحت مجلة “الفكر”، وبفضل توجُّهها المتفهِّم، صفحاتها مشرَّعة أمام الإنتاجات الفكرية والأدبية لكثير من الأقلام الجزائرية لا سيما في سنوات الثورة التحريرية. وعملت أقلام الجزائريين على صفحاتها في بناء رأي ثقافي مرافق للثورة، وتعبئة فكرية مواكبة لها. وكانت تهلّل وتمجّد وتفاخر بانتصاراتها على العدو الغاشم الظلوم، وترافقها في كل يومياتها ومحطاتها المفصلية بالقصيدة والمقالة والقصة والأقصوصة والخاطرة ومقالة الرأي والتنظير الفلسفي والخبر العابر. ومن هؤلاء الكتاب من كان يمضى مساهماته باسمه الشخصي الذي يعرف، ومنهم من اختار التواري خلف اسم مستعار، ومنهم الكاتب اللامع صاحب الشهرة ومنهم المغمور ذو الذّكر القليل. ومن الأسماء التي ظهرت على صفحات أعدادها نذكر في قائمة غير حصرية: صالح الخرفي الذي كان يكتب أحيانا باسم مستلف هو أبو عبد الله صالح ومحمد الصالح باوية ويحي بوعزيز والجنيدي خليفة ومفدي زكريا ومحمد الأخضر السائحي ومحمد العيد آل خليفة، وغيرهم. ولم تغفل المجلة بعض كتابات الكتاب الملتزمين الذين يكتبون باللغة الفرنسية بعد ترجمتها إلى اللغة العربية مثل محمد ديب ومالك حدّاد.

أريد أن أختم هذه المقالة القصيرة التي لم تعط الموضوعَ حقَّه كاملا بنفس الجُمل التي ختم بها الأستاذ البشير بن سلامة رسالته؛ لأنني أجاريه الرأي فيها، وهي: (هذه أهمّ الخطوط الفكريّة والثّقافيّة الّتي سارت عليها مجلّة الفكر طوال واحد وثلاثين سنة أحببت التّذكير بها لاعتقادي أنّها كانت لبنة هامّة في صرح الحداثة الفكريّة والأدبيّة والثّقافيّة لهذه البلاد. ولا أخال أنّ العديد من الّذين ساهموا في مسيرة مجلّة الفكر بإنتاجهم وإبداعهم يشاطرونني الحرص على التّذكير بدور هذه المجلّة في تكوين رصيد ثقافيّ وتنمويّ لا يمكن أن ينكره كلّ من يريد الخير لهذه البلاد).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • حسين بوكحيلي تونس

    انه الزمن الجميل زمن الابداع الثقافي كنت صغيرا وكانت أذناي دائما على موعدا مع محمد الاخضر السائحي اين ايامك يا جزائر اين ايامك ياتونس