-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عامكم سعيد يا ضحايا “الفوضى الخلاّقة”

أبو جرة سلطاني
  • 1465
  • 8
عامكم سعيد يا ضحايا “الفوضى الخلاّقة”

لسنا وحدنا في هذا العالم، والتطرّف لم يعد سلوكا فرديّا، بل تحوّل إلى تجارة عالميّة كلُّ شيء فيها قابل للبيع. والحديث عن “الوطن الأمّ” لم يعد له معنى أمام سلطان الاتفاقيات الدّوليّة وسطوة القانون الذي تفرضه دولة الإقامة وشروط الجنسيّة ومشمولات المواطنة التي تفرض على كل مواطن احترام سلطة الدّولة التي تضمن لمواطنيها حقوقهم في مقابل قيامهم بواجباتهم الدستوريّة والقانونيّة، في ظل العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، واحترام حقوق الإنسان وغضّ الطّرف عن بعض الخصوصيّة الثقافيّة التي لا تتسبّب في تهديد الأمن العام والوحدة الوطنيّة.
وعلى كل مواطن التّسليم للدّولة التي يقيم فيها بالسّلطة السياسيّة ومعارضة الرّداءة والوفاء بالعهود والمواثيق التي حوّلت الكرة الأرضيّة إلى ما يشبه الوطن المشترك للبشريّة جمعاء بفرْض هجرة انتقائيّة تتلافى تكدّس سكان المعمورة في شمال الكرة على حساب جنوبها.
ما أشبه الليلة بالبارحة، ففي سنة 1492 الميلاديّة سقطت آخر قلاع ملوك الطّوائف، ووطئت أقدام الرّجل الأبيض أرض القارّة الخامسة التي حملت اسم مكتشفها “أمريكو فوسبوتشي”. وها نحن نعيد درس ملوك الطوائف، فالعالم الإسلامي يشهد موجة من الانهيارات السياسيّة الناجمة عن الامتداد الطّاغي لموجة الفوضى الخلاّقة. وفي هذا السياق التاريخي يُعاد اكتشاف أمريكا بـ “صفقة القرن” في طبعة رديئة لكتاب صادر عن الخارجيّة الأمريكيّة سنّة 2001 تمّ تخزينه بضع عشرة سنة ليُعاد تسويقه ضمن تداعيّات ثورات الرّبيع العربي، التي استحالت إلى خريف بئيس عرّت أعاصيرُه أشجارَ أوطاننا وكشفت أسرارها وأسقطت ثمارها قبل نضجها.
نجحت سياسة الفوضى الخلاّقة في تغذيّة أحقاد القرون الماضيّة، وفي تحريك المياه الرّاكدة، وفي خلخلة الاستقرار الدّاخلي لكثير من الأنظمة، دون أن تقدّم بدائل واضحة.. واكتفت بإسقاط ما كان قائما ومنع قيام ما كان قادما، لتظلّ هذه الكيانات النّاشئة قيْد الدّرس قبل أن يتقرّر النّموذج الذي سوف تكون عليه الدّولة البديلة عن الدّولة الوطنيّة (دولة قبيلة أو عشيرة، أو دولة مواطنة وشراكة، أو دولة ملوك طوائف..) لكنّ الحاصل المؤقّت هو أنّ تفكيك الأنظمة القديمة قد زرع المخاوف في نفوس الماسكين بأزمّة الأمور من استمرار موجة الفوضى الخلاّقة إلى مدًى تصبح فيه الدّولة رهينة لجماعات “الهاكرز” المالي والسياسي والاقتصادي والتجاري والثّقافي أيضا.. وكلها جماعات مصالح تعمل على فصل كيان الدّولة عن مكوّناتها ومقوّماتها وثوابتها وهويتها.. فلا يبقى من ملامحها سوى مواقعها الجغرافيّة. والبقيّة تسخير ثروات وتهجير أدمغة لتزيد في رفاه سكان الضفّة الأخرى.
وحدة قياس التخلّف والتطوّر ـ لدى الشّعوب والدّول والأمم ـ لم تعد تُقاس بمتوسّط الدّخل الفردي، ولا بنسبة توصيل البيوت بالماء والكهرباء والغاز والأنترنيت، ولا حتّى بتدنّي نسبة البطالة.. فتلك مؤشّرات الثّلث الأخير من القرن الماضي. أما مؤشرات الثّلث الأوّل من القرن الواحد والعشرين فانتقلت من الضّروري والكمالي إلى اشتراط نسبة السّعادة لدى أفراد هذا الشّعب أو ذاك بعشرة مؤشّرات إذا قيست بها شعوب ما يسمّى تأدّبا “العالم الثالث” تنزل كلها تحت خطّ الشّقاء. والأدهى من كل هذا أنّ العالم الثالث بات مهدّدا بفقدان سيادته على أمنه الغذائي وأمانه الاجتماعي، وعلى حدوده ووحدته وسلطته السياسيّة.. وهي نتائج أحداث 11 سبتمبر 2001 وثمار خطّة عالميّة ترسّمت معالمها مع بداية العدّ التّنازلي لتفكّك الاتحاد السّوفياتي ونهاية القطبيّة الثنائيّة، فحركة التاريخ لا تؤمن بالقطبيّة الأحاديّة، ولا بدّ لكلّ قوّة نافذة من قوّة تستفزّها وتعاندها لتستمرّ في البقاء. وهي الفكرة التي أوحت لصنّاع القرار العالمي بوضع خطّة مؤلمة تبدأ بصدمة عالميّة تغيّر أنماط التّفكير العاقل إلى أشكال تبدو متهوّرة ولكنها مثمرة، كان الهدف منها اختراع عدوّ مرعب يكون مبرّرا يًقنع الرّأي العام الدّولي بأنّ زوال الخطر الأحمر سوف يخلفه خطر أكثر قدرة على خلخلة الاستقرار العالمي هو “الخطر الأخضر” القادم من الشّرق.
صنعت الدّعاية العالمية فزّاعة القاعدة، ونفخت في تنظيم الطّالبان حتّى صار جيشا منظّما له قيادة عالميّة، ومراكز تدريب، وبؤر توتّر في العالم كله، وعمليات نوعيّة في السّودان، ومصر، والسّعوديّة، واليمن، والصّومال، والجزائر، والمغرب، والعراق.. بل وجاس خلال ديار الغرب وأمريكا: فضرب في باريس، ولندن، وموسكو، وواشنطن.. وتمّ تسويق هذه الصورة وتضخيمها لتصبح العدوّ المشترك الأوحد للأسرة الدّوليّة، تعمل على تطوير أسلحة بيولوجيّة وجرثوميّة (الجمرة الخبيثة..) ولا بدّ من تعاون دولي لتجفيف هذه المنابع عبر سياسة الضربات الاستباقيّة. ، فالبشريّة كلها أضحت مهدّدة. وعلى أحرار العالم التّعاون لمواجهة هذا الخطر الماحق. بعد تجاوز عقبتيْن.
ـ عقبة المظلّة القانونيّة التي تبيح التدخّل في الشؤون الدّاخليّة للدّول المارقة، بهدف تعقّب هذا التنظيم وتجفيف منابع الإرهاب في العالم، وضرب المتعاونين معه في كل مكان.
ـ وعقبة التبرير السياسي لانتهاك حقوق الإنسان والحرّيات والدّيمقراطيّة والدّماء والأعراض.. لإعادة ترتيب أوراق الملفّ العالمي تمهيدا لبناء نظام دولي جديد.
تمّ حبْك سيناريو ضرب برجيْ التّجارة العالميّة يوم 11 سبتمبر 2001 بإخراج هوليودي بارع، يتجاوز قدرة الأفراد والجماعات والمجموعات المسلّحة، إلى جهات نافذة في صناعة الأزمات وإعادة كتابة التاريخ من منطلقات المصلحة التي لا تعير كبير اهتمام للعواطف والدّماء والفزع الذي تحدثه الصّدمات المغيّرة لمجرى الأحداث. فما حدث كان بداية لتاريخ جديد للبشريّة، تاريخ صنعه الكبار وتجرّع الصّغار مرارته. فباسم نظريّة تجفيف المنابع انتشرت ترسانة من الأسلحة في العالم كله، وصارت قطعة السلاح أرخص من رغيف الخبز، وطريق الوصول إليها أيسر من الحصول على حبّة أسبرين. ومن عجائب الفوضى الخلاّقة أنّ الشّعوب الأكثر فقرا وتخلّفا هي الشّعوب الأكثر تسليحا واقتتالا فيما بينها. فباسم نشر الدّيمقراطيّة تمّ تأجيج نيران الانتقام من أنظمة عتيقة لا تريد أن تغيّر خطابها ولا سياساتها ولا جلدتها التاريخيّة. لكنّ الذي فاجأ المبشّرين بنظريّة نهاية التاريخ، والمخطّطين للفوضى الخلاّقة، والدّاعمين لفكرة الضّربات الاستباقيّة، وإنهاء وجود الدّول الوطنيّة.. هو: سقوط حلفائهم وعجز أصدقائهم. فحلفاؤهم تهاووا بسرعة لم يكونوا هم أنفسهم يتوقّعونها. لكنّ الذي حلّ محلّه هو “الخطر الأخضر” بلونه الهادئ الذي تراكمت تجربته عبر سنوات طويلة من البناء والتّكوين والتعاطي مع الواقع.. كونه التّيار الأكثر تنظيما وترابطا وفقها لقانون قيام الحضارات وسقوطها.. في مقابل انحسار ظلّ الحركات المتطرّفة. وهي الظاهرة التي أفسدت خطّة مبتدعي مصطلح الفوضى الخلاّقة وأربكت استراتيجيّة قطع الشّجرة بغصن منها، لما أدركوا أنّ التطرّف عدوٌّ بليد وخصم ساذجٌ يسهل استدراجه إلى ميدان الصّدام والإجهاز عليه باسم تجفيف المنابع. أما الحركات الهادئة فنفسها طويل، ونظرها بعيد، ومعركتها ليست ذات طابع إيديولوجي.. فاقتضى الواجب إحداث تغيير جوهري على خطّة الفوضى الخلاقة بتمديد آجال تنفيذها ثلاثين عاما مقسّمة إلى ثلاث موجات عالمية كبرى. نحن اليوم في قلب الموجة الثانيّة. وللحديث بقيّة. وكل عام وأنتم بخير.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • moha

    ولهذا بقى العرب في ذيل الامم. حتى نخبتهم المثقفة (المشقفة) مازالت تكرر اسطوانة المؤامرة الخارجية وكل شيئ يقع في بلادنا من صنع الغرب واسرائيل وهم يحسبون ليلا ونهار كيف يحطموننا وكانا القوة العضمى في العالم. هذا هو الافلاس الفكري بشلاغمو. ابو جر لا يرى بان تاخرنا هو من صنعنا وخاصة فساد ملوكنا و حكامنا وهمم الوحيد هو الحفاض على الكرسي. مادخل الغرب في استبداد حكام العرب لشعوبهم وتفشي الضلم والفساد في بلداننا. نعم الغرب له مصالح ولكن العيب فينا واسوء عيب هو الساقه في غيرنا.

  • سليم

    الهدرة و الباقي ربي يجيب
    كي تحكي احكي في المفيد و لا اسكت

  • صنهاجي قويدر

    الاداة الكبرى التي استخدمت في تنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة هم الاسلاميون الذين استدرجوا بواسطة الديموقراطية لتشكيل احزاب اسلاموية متهورة حركت الهمجية في الشوارع وعطلت العمل الوطني ، ثم اشعلت الثورات التي زادت الطين بلة والكلام الاخير لابي جرة هو للعلماء السلفيين - كالالباني وابن باز والربيع - فلماذا يتجاهل سلطاني ويكابر ولا يرد النصيحة لاصحابها

  • merghenis

    لا أدري لماذا يتكلمون على فلندا و أعتقد أن ذلك بدون علم. هناك جغرافيا و أمور أخرى.
    من 2015 بدأت فلندا تتراجع و نسبة البطالة في إرتفاع. ليس كل شيء جميل في فلاندا.

  • منوني

    للأخ أمين صاحب الحمص نصحح لك حمس و ليست حمص و هي حركة مجتمع السلم التي أراد لها خصومها منذ بداية قيامها ما تهواه أنفسهم و أرادت لنفسها الشورى و هذا الجانب من الأستاذ أبي جرة سلطاني من فكرها ..بصحتك خويا كول الملة و سب الملة
    للأخ الثاني علي لقد كنت صائبا في قولك أخي و الأدهى من غياب الإخلاص غياب العمل أصلا فغياب الإخلاص نتيجته أ يحبط عملك الذي أشركت فيه أما الكلام بلا عمل فنتيجته المقت من الله تعالى ...كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون

  • ali

    هل لك أن تشرح لنا لماذا بلد صغير كفنلندا مثلا، يضرب بيه المثل في النجاح على كل الأصعدة ؟
    و فوق كل ذلك فشعب فليندا يصنف كأسعد شعب فوق المعمورة.
    سيدي الفاصل لا أعتقد أن لنا عدو أشرس من أنفسنا.
    يوم نخلص العمل، لأن العمل لا قيمة له إلا بإخلاص، عند ذلك الحين نرى العجائب.
    و لنا في ثورة تحريرنا مثال للإخلاص، ليس بعده إخلاصا.

  • امين

    مقال رائع يا شيخ بصدق انت تصلح لتكون مدير مركز الدراسات الاستراتجية الجزائر لماذا تلطخت بالسياسة مع حزب الحمص وانت الان تضيع وقتك مع منتدي الوسطية فيا ريت نراك يوما مديرا لمركز الدراسات الاستراتجية فشكرا لك

  • أحمد المسيلة

    عامكم سعيد يا أدوات " الفوضى الخلاقة"