-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عبد الرزاق دربال… الصحابيّ المتأخّر!

عبد الرزاق دربال… الصحابيّ المتأخّر!

بترجُّل رمز المحبّة والعطاء…فارس المنابر والدعوة وساحات الجهاد الخيري، سيدي عبد الرزاق دربال، تُخيّم سُحب الحزن والكآبة على سماء الأمة الإسلامية، فتُمطر دمعًا مدرارًا، وتتفطّر قلوب المؤمنين الذين عرفوه في كل مكان، لأنّ المصاب جلل، والراحل ليس ككل الراحلين، فهو بإيمانه وأخلاقه ونقاء سريرته وخدمته للدين والوطن كأنّه صحابي متأخّر، وإنْ عاش بعد حياة الرسول عليه السلام بـ14 قرنًا!
من أين نبدأ الرثاء يا شيخي الحبيب وقد ملأتَ الكون جُودًا وعطاءً…ونشرت في أرجاء المعمورة أنوار الهداية…ونثرت في جوانحها ورود الحبّ والسلام…فعشت حياتك الملائكيّة باذلاً في سبيل الآخرين دون كللٍ ولا مللٍ، فكنت مُعلمًا مثاليّا للأجيال بمنهج الفضائل…واعظًا لكلّ غافل بالرحمة واللّين…مُرشدا للشباب بأبوّة وحنان..خادمًا لكل محتاج بفرح وسرور…ساعيًا بلا مَنٍّ ولا أذَى في سعادة البسطاء.
بوفاتك المُوجعة..سيذكر اليوم كل متعلّم، حباه الله برعايتك، تلك الدروس والعبر واللطائف والقصص والرسائل التي كنت تبثها في حصص التربية الفنيّة، فطوّرتها من مقرّر بيداغوجي للتمرّن على الإبداع بالصور الجميلة والخطوط البديعة، إلى فضاء تربوي لصياغة الإنسان الجميل في روحه ومكارمه، حتّى سكنت قلوب ناشئتك وكانت محامدك الرفيعة على لسان جميع تلامذتك، يستوي في مدحك والثناء على خصالك النّجيب والمقتصد في تحصيله والضعيف منهم والرّاسب فيهم دون تمييز.
ما كنتَ يومًا يا سيدي الفاضل الراحل في الشهر الفضيل معلّمَ راتبٍ يتخذ من التعليم مهنةً لكسب القوت والمعاش، بل صاحب رسالة سامية يسعى بها في كل الأوساط، مبلّغًا ومُشرفًا ومُنفقًا وقائدًا يتصدر مضامير المغارم، ولا يزاحم غيره على ميادين المغانم، فقد آثرت ذُخر الدار الباقية على متاع الفانية.
بوفاتك الصادمة…سيذكر كل مرتاد لبيوت الرحمان دروسك النافعة وخطبك المدوية وعملك الدؤوب في عمارة المساجد…ستستحضر أجيالٌ متعاقبة التماسَها لطريق الحق أول مرّة على يديك…ستخطر على بال الكثيرين منها كلمات النصح الرقراقة التي تدفقت عذبةً زلالةً من قلبك الرحيم الرؤوم، قبل أن تجري على لسانك الطيّب الفصيح…سيشيرون بالبنان والامتنان إلى اسمك اللامع في ساحات التبليغ والإرشاد…مُفتخرين بفضلك المشهود في انتشالهم الآمن من براثن الأهواء ومراتع الشهوات ومهالك التنطّع المذموم.
بوفاتك المباغتة…سيذكر أهل القرآن في بلدتي كيف وصلت الليل بالنهار وجمعت رمضان بسائر الشهور في خدمة كتاب الله، حافظًا وقارئًا ومُعلمًا لآيات العزيز الحكيم…سيقومون إلى ألواحهم ومصاحفهم وصلواتهم وتراويحهم تَالينَ ما كنت تُلقّنهم في نعومة الأظافر الأولى وفي الكهولة الوسطى ومع أرذل العمر…سيهبّ الشباب والشيوخ والنساء والعجائز زرافاتٍ ووُحْدانًا إلى مجالسهم في حِلق القرآن، وأعناقُهم مشرئبّة إلى طلعتك البهيّة، وهم في حيرة من أمرهم، لا يصدقون أنك لن تشرق عليهم بعد اليوم مثل شمس الضحى…ولن تنير دروبهم الوعرة في عُباب الفتن كقمر الدّجى!
بوفاتك المُرزئة للمجتمع…سيحنّ الأيتام إلى أبٍ عطوف لم يخرجوا من صُلبه لكنه عوّضهم عن حنان الوالد المفقود…وتفتقدك أرامل ضعيفات كنتَ نعمَ المُعين لهن في النوائب وسدّ الحاجات…سيبحث عن أثرك المحمود كل فقيرٍ رسمت البسمة على قلبه في الأعياد ومواسم الأفراح…وسيدعو لك كل معوزّ قهَرتْهُ مصاعب الزواج سنينَ مديدةٍ، حتى أتممت له مع إخوانك الخيّرين نصف دينه، فبنى أسرة مسلمة على أسس من التقوى والصلاح…وسيُهديك أسمى الأوسمة وشهادات العرفان كل تلميذ أوشك على تطليق الدراسة بفعل الخصاصة، قبل أن تنقذه أنت وأصحابك المحسنون من مستنقع الآفات الاجتماعية للتسرب البغيض…وسيُثني على سعيك المخلص كلُّ ذي حاجة لم تؤلُ جهدا ولا مالاً ولا جاهًا في قضائها إليه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، دون أن تبتغى عليها جزاء ولا شكورا.
بوفاتك الفاجعة يا سيدي الكبير…ستُظلم مواطنٌ أنارَها غدوّك ورواحك ونشاطك الحثيث في بيوت الله وفضاءات الخير ومؤسسات الإحسان ومدارس العلم ومجالس الذكر والصلح…ستنطفئ شموع وقّادة لطالما نفختَ فيها من روحك الوثّابة وهمتك العالية سعةَ الأمل وحبّ العمل والإيثار ونكران الذات وعزة النفس وسموّ الغايات.
برحيلك على عتبة الستّين، تفقد الأمة قاطبة ذلك الداعية الصادق والإمام الواعظ بوسطية واعتدال والمسلم الخلوق المسالم والمناضل القومي الذي عاش لنصرة القدس وفلسطين، فعرفته مستنفرا للجزائريين في قوافل الإغاثة ومشاريع التوطين المقدسي…وسيخسر الوطن سياسيّا نزيهًا لم يطلب يومًا شيئا لنفسه أو عشيرته الأقربين.. ومتطوعًا مبادرا متجردا من حظوظ الدّنيا و زخارفها الفاتنة.
يا شيخًا فقدناه على حين غرّة…نُؤبّنك اليوم بدمع غزير يجري على قراطيس الوجع جريان المداد المفجوع…وحروفٍ مكسورة حمّرها دم القلوب المكلومة…فما أقسى نعيَ الأحبة المتربعين على عرش الفؤاد، فهو عذاب شديد يُلهب لوعة الفراق!
وداعًا أيها الشيخ الجليل إلى جنة الرضوان…والعزاء المُسلّي في رزيّتنا العظمى أنّ الله اصطفاك إلى جواره في العشر الأواخر من رمضان، وفي ليلة من ليالي القدر الغراء، وكم كنت تجتهد خلالها بالعبادة حتى كتب لك فيها حسن الختام!
إنا لله وإنا إليه راجعون

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • أبو ذر

    الله يرحمو و حاشا الصحابة

  • الذكتور محمد مراح

    قنديل نور إنطفأ : رحم الله الداعية والمربي الفاضل وأسكنه الجنان . لو كتب للصحوة الإسلامية المباركة عندنا أن تنغمس في الدعوة والتربية والتوعية الفكرية، بقيادات من هذا القبيل ، وتقلص من مساحة النشاط الحزبي المباشر لكنا اليوم بإذن الله وفضله أمام شعب آخر غير الذي خرجه الدجال الأعطم اليوم . لكن الحمد لله على وعد الله ورسوله :{ من قال هلكت أمة محمد فهو أهلكهم} .

  • محمد العربي

    رحمه الله و طيب ثراه و جعل الجنة مآله و مثواه من رجل تقي حسبما علمناه