الرأي

عبّاس بحري… ذلك العالِم المتمرّد!!

في هذا الشهر من عام 2016 توفي عباس بحري بنيويورك إثر مرض عضال، وفي هذا الشهر من عام 1955 ولدته أمه بتونس العاصمة. يعتبر المرحوم من أبرز علماء الرياضيات في مجال اختصاصه عبر العالم. تلقى دراسته حتى المرحلة الثانوية في مسقط رأسه. ونظرا لتفوّقه اختير ليواصل دراسته في أرقى المؤسسات الجامعية الفرنسية.
وهكذا رحل إلى باريس في سن 17، وقد أحرز هناك على شهادة التبريز في الرياضيات، وكان من الأوائل. وفي نفس الوقت أعدّ دكتوراه الدولة خلال فترة قياسية لم تتجاوز سنتين وناقشها عام 1981. وقد نعاه المشرف عليه حاييم بريزيس Brezis مشيدا بخصاله، ومشيرا إلى ابتهاج عباس بحري في آخر أيامه حينما كان أحد كبار الرياضياتيين العالميين يستشهد بعمل أحد طلبة الفقيد.

هل يعودون إلى بلدهم؟

في نهاية السبعينيات كانت في باريس مجموعة لامعة من الطلبة اللامعين التونسيين. وكانت من مشاغل هؤلاء الفتية الإجابة عن السؤال التالي : هل يعودون إلى بلدهم بعد التخرّج أو يمكثون في ديار الغربة؟ سيما أن الطلب على أمثالهم من المتميزين كان شديدا في أوروبا وأمريكا. وبطبيعة الحال، فالإجابة كانت صعبة لأن منهم من كان له نشاط سياسي قد يعرّضه إلى المضايقات عند العودة، ومنهم من كان يخشى سلوكا مناوئا من قبل الإدارة والزملاء عند الدخول.
ومع كل ذلك دخل عباس في أكتوبر 1981 والتحق بجامعة تونس. لكن الوضع سرعان ما اضطره إلى مغادرتها لينتسب لهيئة التدريس بالكلية المتعددة التقنيات الباريسية. وفي عام 1987 التحق بالولايات المتحدة كأستاذ بجامعة روتجرس Rutgers. وكان حتى عام 2010 المشرف على “مركز التحليل اللاخطي” بالولايات المتحدة. كما انتسب لفترات متفاوتة لجامعة شيكاغو ومعهد كورنت Courant الشهير بنيويورك.
وفي بداية 1990، نجده أستاذا مشاركا في المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس. وهي المؤسسة التي أخذت على عاتقها تكوين أرقى المهندسين. وفي هذا السياق استفاد الطلبة من خبرات عباس بحري الذي لم يبخل بعلمه. ومن مبادراته العلمية أنه أسس عام 1997-1998 سلسلة الندوات “الرياضيات التونسية الصيفية” في متحف “دار الحوت” حيث يتلقى فيها الطلبة تكوينا عاليا ومتميزا. وخلال عامي 2014 و 2015 قدم سلسلة من الدروس في الكلية المتعددة التقنيات التونسية مخصصة لطلبة الدكتوراه.
والواقع أن تنظيم هذه اللقاءات العلمية والمحاضرات كان يهدف في آخر المطاف إلى تكتل الرياضياتيين التونسيين العاملين في الخارج والداخل للاحتكاك ببعضهم البعض دفعًا للتعاون المثمر بينهم من أجل تأسيس تقليد علمي يرقى بتونس إلى المستوى العالمي. وهكذا أدى نشاط الأستاذ عباس إلى اتفاق بين الكثير من الأساتذة يقضي بالإشراف المشترك على عدد كبير من الطلبة وبإلقاء محاضرات ودروس مختلفة من قبل الزوار فأثرى ذلك تكوين الطلبة المتخصصين في الرياضيات والعلوم التطبيقية.

التاريخ والسياسة والرياضيات

من المعلوم أن عباس كان يهتم، فضلا عن الجانب العلمي، بالثقافة العامة والتاريخ والسياسة. وما يهمّه هو تحسين ظروف معيشة الناس إذ يعتبر أي عمل لا يعزّز سعادة الفرد والجماعة عملا لا يستحق الاهتمام.
عندما استضيف الباحث عباس عام 2013 للمشاركة في تكوين طلبة الدراسات العليا بتونس في سياق ظروف علمية واجتماعية لم يكن راضيا عنها، كاتب زميله المنظم لهذا النشاط معبرًا عن رغبته : “أتمنى أن أكون… في قاعة مناسبة مزودة بطبشور جيد … لا أريد إدارة ولا زيارة سياسيين ولا استغلال سياسي : أريد فقط طلبة وزملاء وأصدقاء.”
وعند نزوله ضيفا على مؤسسة “الكوليج دي فرانس” Collège de France العريقة في باريس عام 1994 خلال فترة التعايش بين اليمين واليسار في الحكومة الفرنسية؛ وكانت فترة تميزت بعداء للأجانب… لم يتردد عباس بحري في بداية محاضرته بالتعبير عن نقده المباشر لهذا الوضع موجهًا اللوم للعلماء الفرنسيين الذين لم يفعلوا أي شيء لإدانة هذه السياسة، مستخلصا في آخر كلامه : “لقد انتهى عهد لورنت شوارتز Schwartz”، علما أن هذا الأخير كان رياضياتيا عالميا لامعا ورمزا للنضال السياسي المعادي للاستعمار بكل أشكاله.
وخلال محاضرة ألقاها بألمانيا عام 2004، أدان انهيار النظام الذي يتحكم في إنتاج العلوم وتزايد الأخطاء في هذا الإنتاج. وقبل وفاته نشر مقالا بعنوان “5 فجوات في الرياضيات” أبرز فيه ثغرات خطيرة عرفتها الرياضيات منذ 1984. وقد أحرز عباس بحري على عدة جوائز عالمية، ورغم ذلك يقول عنه الفيلسوف والرياضياتي الفرنسي أولفيي ري Rey : “كان بإمكان عباس بحري الفوز بالمزيد من الجوائز العالمية والتشريفات لو كان ذلك هو هاجسه”.
كان الأستاذ عباس مولعًا بدراسة تاريخ الحضارة العربية والاطلاع على إنتاجها، ولا يسكت أبدا أمام أولئك الذين يتهجمون على أصالتنا وقيمنا لاسيما في الغرب، بل يتصدى لهم بكل قوة إذ لديه ما لديه من الحجج والبيان بفضل اطلاعه على متاهات التاريخ. فعباس كما يقول زملاؤه هو “ابن الحضارة العربية الإسلامية التي تأسست على البحث الفلسفي والعلمي التجريبي والنظري من قبل ابن سينا والفارابي وابن رشد…”. فقد كان عباس يرى في أمثال هؤلاء العلماء “فكرا تنويريا يوسّع دائرة العقلانية إلى حدود الكوْن…”.
ولعل هذا الفكر هو الذي جعله يرد على أحد أصدقائه بالقول المازح : “يا الحاج، لو تثبت لي وجود الجّنة لتخلّيت عن الرياضيات، ولوجدت الطريق السالك الذي يجعل العلمانيين يصِلونها قبل الآخرين”! ونفهم من ذلك تحدّيا لرجال الدين للإتيان ببرهان من هذا القبيل يكون في متناول جميع العقول. كانت مكتبته في منزله تعجّ بالكتب العلمية العربية المؤلفة خلال القرون الوسطى. وسعة ثقافته مكنته من الاطلاع على رسائل إخوان الصفاء وغيرها من المؤلفات… فاستخلص بأن “ديكارت كان من المفروض أن يلد عربيًا لو لم يلد متأخرا”!
يعتبر عباس أن تحرير العقول في رحاب الجامعة مع التركيز على البحث في العلوم الأساسية رهان حاسم لدول العالم الثالث لأن هذا النوع من البحث غير مكلف، ومن شأنه أن يؤسس تكتلا من “الدول الحرة” ذات مصداقية لا تهرب منها أدمغتها، وتكون قادرة على مواجهة منطق القوة والهيمنة المرافق لكل أنواع البحث العلمي الأخرى التي تركز على الصناعة والتسلح!
بعبارة أخرى، فما ينادي به المرحوم عباس بحري هو أن تبرز في العالم الثالث “أمم ذكية” باستطاعتها أن تفرض على العالم الآخر منطقا جديدا للسلم دون اللجوء إلى استعمال القوة والعنف. فهل لدينا القدرة على تلبية هذا النداء؟!!

مقالات ذات صلة