-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عثمان سعدي.. لا تترجّل يا فارس العروبة!

عثمان سعدي.. لا تترجّل يا فارس العروبة!

بعد عقود طويلة في ميادين الكفاح والجهاد والنضال الوطني، قضاها محاربًا على كل الجبهات بين عهدي الاحتلال والاستقلال، بلا كلل ولا ملل، رافضًا الاستسلام والمساومة، ها هو عثمان سعدي، أسد العروبة في الجزائر، يرقد منذ أيام طريح الفراش، يكابد وحده وأهلُه الأقربون المرض في صمت، سائلين المولى الرحيم أن يلطف به ويخفف عنه ما نزل به من بلاء وسقم.

عثمان سعدي، ذلك الأمازيغي الحرّ، أصيل النمامشة بولاية تبسة، عرفته الأجيال مناضلا شرسًا في دفاعه عن الهوية الوطنيّة ضمن مبادئ ثورة نوفمبر التي فجَّرها وإخوانُه المجاهدون من الرعيل الأول، فقد نافح طيلة 60 عامًا عن العربية في الجزائر ضد التلويث الفرنسي والاستلاب اللغوي، مثلما أثبت بالبحث الأكاديمي عروبتها عبر التاريخ، بما فيهم المكوّن الأمازيغي، معتمدا على أكثر من ستين مرجعا نصفها غربيّ، بل كرّس جهوده في حقل العلوم اللسانيّة لإثبات الأصول الاشتقاقية لمفردات الأمازيغية.

لقد خاض سعدي معركته الباسلة لتكريس الانتماء الحضاري للأمة، عروبة وإسلامًا، في مواجهة المشروع البربري للاستعمار القديم والجديد على السواء، والذي لا يزال يروم قطْع صلة الجزائر بجذورها، لإلحاقها عنوة بأوروبا وفرنسا على وجه التحديد، باعتبارها العقل المدبر لأفكار التيار التغريبي المتدثر بإحياء الثقافة الأمازيغية المفترى عليها.

ومنذ بدايات استرجاع السيادة الوطنية، قرّر عثمان سعدي مبكّرا مواصلة استحقاق “الجهاد الأكبر” ضد بقايا الاستدمار، من خلال انخراطه الفعال في معركة التعريب، بالوقوف الشامخ ضدّ الهيمنة الفرانكوفونية على إدارة الدولة الجزائرية المستقلة، ولم تكن المهمة سهلة، فقد اضطرّ لإصدار كتابه “قضية التعريب في الجزائر” خارج الوطن، في طبعته الأولى من بيروت والقاهرة عام 1967، ولم يرَ النور في بلاده إلا عام 1993.

بالموازاة، ظل المجاهد سعدي مهمومًا بتاريخ ثورة شعبه، فانبرى باحثا يجمع تراثها الشعري العربي بين دمشق وبغداد، خلال مَهمَّته الدبلوماسية بهما سفيرا لبلاده، وتكلّل جهده البحثي بانتقاء 255 قصيدة عصماء في الثورة الجزائرية، جادت بها قرائح 107 شاعر وشاعرة من العراق، أبرزهم محمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ونازك الملائكة، وغيرهم.

كما تمكّن خلال تمثيله بسوريا خلال سبعينيات القرن العشرين من جمع 199 قصيدة مماثلة في بطولات الجزائريين، مقروضة من 64 شاعرا وشاعرة، من أمثال سليمان العيسى، ونزار قباني وغيرهم.

ولارتباطه الجيَّاش بالوطن، فقد تتبّع الأديب المناضل “تاريخ الجزائر من العصر الحجري وحتى 1954″، فكان بذلك كاتبا ومؤرخًا ودبلوماسيّا جعل من مأموريته الرسميّة محطة وفرصة أخرى لمواصلة الرسالة الوطنيّة التي آل عليها نفسه منذ نعومة الأظافر الأولى.

وليس ذلك بمستغرب على رجل فذّ نشأ نشأة وطنية منذ عهد الصبا، فقد هجر المدرسة النظامية الفرنسية بعد مجازر 08 ماي 1945، لينخرط مبكرا في حزب الشعب الجزائري، ثم يتخرّج من معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة عام 1951، قبل التحاقه بالقاهرة لنيل الإجازة في الآداب، والتحق بصفوف جبهة التحرير الوطني منذ تأسيسها، حاملاً صفة الأمين الدائم لمكتب جيش التحرير بالقاهرة طيلة فترة الثورة.

ولسنا هنا بصدد سرد حياته العلمية والمهنية الزاخرة بالمحطات والألقاب، لكن أوردنا منها عرضًا ما تعلّق بمساره الثوري، ليبقى تأسيسه مطلع التسعينيات لـ”الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية” وإشرافه على شؤونها إلى اليوم، رغم الحظر الإداري من النشاط، شاهدا آخر على روح الكفاح والالتزام الوطني الّلذيْن تحلّى بهما تجاه الهوية، وتحمّل في كنفها مسؤولية تحرير مجلة “الكلمة”، لسان حال الجمعية، فضلا عن تكبّده بسببها عناء التضييق والتهميش الشخصي لفترة طويلة، غير أنه ظل صامدا محتسبًا، يرفض الاستقالة من الفضاء العامّ، مهما كلفه الواقع من ضريبة السباحة ضد التيار.

وفي غضون ذلك، لم تنقطع أبدا مساهمات الكاتب المناضل عثمان سعدي، خاصة حين يتعلق الموقف بالعربية والتعريب والفرْنسة والذود عن عناصر الهوية بشكل عامّ، فكان يصدح برأيه المُبين دون مجاملة لأحد، ولا حساب لرضى أو غضب أي جهة، سوى ضميره المشبَّع بحبّ الجزائر والعربية والإسلام، فلم تمرّ واقعة لها علاقة بهذه القضايا دون أن يعلو صوت الرجل مدويّا في الأرجاء، إذ يرِدُ المجالسَ والمنابر للمرافعة عن عقيدته الفكريّة، وإن تعذّر عليه الأمر أحيانا، لتقدّم السنّ، أبرق برأيه مُوثقا وحرص على متابعة نشره وتفاعل القراء معه، عبر “الشروق” التي كانت دومًا منصته الأولى.

لكن دورة الحياة وأقدارها، تُجبر اليوم المجاهد الفريد “سي عثمان سعدي”، وهو في عمر 92 عامًا، على استراحة القائد الوطني وابتعاده مُكرها عن مضمار “الجهاد الأكبر”، ليترك تلك الأمانة وديعة في عنق الأجيال المؤمنة بالجزائر المسلمة العربية الأمازيغية، دون وصاية فرنسيّة لغوية وثقافية، بعد دحرها عسكريًّا، حتى تُواصل المسيرة المشرقة.

وقبل ذلك، فإنّ تاريخ عثمان سعدي الوطني ومساره الثوري الكبير يلزمان السلطات الرسميّة والمجتمع المدني ونخبة الثقافة بالتفاتة أخلاقية وإنسانيّة تجاهه، وفاءً لقامة سامقة مثّلت قدوة للأجيال على طريق الكفاح، وتكريسًا لقيم الامتنان والعرفان لجيل أدى دوره في بناء الجزائر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • Elrahabi mahmoud sami

    أتوسل وأتضرع الى الجزائر والعربية والإسلام الحي القيوم، الرحمن أن يلطف بفارس العروبة د. عثمان سعدي ويخفف عنه ما نزل به من بلاء وسقم. عرفته مناضلا شرسًا في دفاعه عن الهوية الوطنيّة ضمن مبادئ ثورة نوفمبر ، وعن العربية في الجزائر ضد التلويث الفرنسي والاستلاب اللغوي، لتكريس الانتماء الحضاري للأمة عروبة وإسلامًا، شفاه المولى تعالى وعافاه. متمنياً له السلامة وطول العمر ليبقى ذخراً للجزائر والعروبة والإسلام. عافـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاك الله.