الرأي

عصا.. ومآرب “أخرى”!

ح.م
عيسى زبير

عيسى شاب في عمر الربيع، عصف الصيف في بلدته في قلب الصحراء حرّا وضجرا، فسافر إلى الساحل الساحر، بحثا عن بحر ونسيم يُنعشه، غسل بدنه وغسّله بمياه البحر، وخرج عائدا من رحلة استجمام قبل أن يستوقفه شاب في عمر “الشتاء”، حاملا عصا خشبية بيمينه، ومادا يده اليسرى طلبا لـ”جزية” أعلنها منذ سنوات على كل سائح زار مدينته، في غياب ردع الدولة، وسلبية المواطنين. عيسى، رمى يده لتسبح في جيبه بحثا عن دريهمات، فلم يجد دينارا واحدا، حاول مقاومة هذا الشاب المالك – من دون عقد ملكية – لأرصفة وطرقات المدينة، مثله مثل الذين رفضوا الدراسة والعمل وادعوا الحاجة والبطالة، ولكن العصا محت سعادته، وسعادة أهله، فتوفي بعد معاناته من نزيف حاد، هو بكل ألم، قطرة من نزيف اجتماعي أكثر حِدّة.
ضربة حوّلت فرحة عيسى الذي كان على مشارف الزواج، إلى قصة درامية روت وجع البلاد، التي وجدت نفسها تسيّر بقانون الغاب، يحكم فيه القوي بوقاحته الضعيف، وأحيانا يحكم الضعيف مجموعة من الأقوياء، حيث يقتل الجاني وهو لا يدري سببا لجريمته، ويُقتل الضحية ولا يدري بأي ذنب عوقب، وتبقى البلاد في تناقض صارخ، تسأل الشباب عن سبب مخاطرتهم بأنفسهم في البحر، ولا تبذل أي جهد لإسعادهم أو على الأقل تفادي تعذيبهم.
الشاب الجاني وأمثاله بالآلاف، امتلك الرصيف والطريق، وسرق أموال السياح وحرق أعصابهم، ليس مع سبق الإصرار والترصد فقط، وإنما أمام الملأ وفي وضح النهار، ولأن الصامت عن الحق شيطان أخرس، فقد أحيط الجاني بشياطين صم، بكم، عمي، يدفعون الجزية، خوفا من مصير عيسى.
مشكلتنا أننا نعالج دائما الداء، بالداء، فالحملة التي أعلنها رواد الفايس بوك بالوقوف في وجه حراس السيارات الطفيليين بالقول والفعل وليس بأضعف الإيمان، لا تعدو أن تكون داء آخر، نعلم جميعا أنه لم يترك السيارات “تصدّي” بل رفع من سعرها أكثر، ولم يترك الدجاج “يتعفن” بل طار به إلى أسعار قياسية، ولم يترك النساء “تبور” بل جعل المهور لمن استطاع إليها سبيلا، ونعلم جميعا بأن العصا ستبقى الأعلى صوتا في مثل هذه الشجارات.
لا يمكن للمواطن أن يسهر على تطبيق قانون غير موجود أصلا، فالعصا في مثل هذه الحالات لا بدّ وأن تكون بيد الدولة لتوقف مثل هذه التجاوزات وما أكثرها، وأتصوّر أن أطرافا في السلطة تتسلى بدعوات “خليها تصدّي وخليها تعوم، ولا تدفع دينارا واحدا لحارس الباركينغ”، فقد تجاوز عدد الاحتجاجات سنويا الخمسة عشر ألفا، ولا أحد حرّك ساكنا، والمشكلة أن المواطن يدفع بدل “الجزية” المفروضة عليه عندما يركن سيارته لقضاء حاجاته، جزية مضاعفة من معنوياته أكثر خطورة من العصا التي تترصده في كل موقف للسيارات، فصارت العصا في بلادنا لمن عصى ولمن لم يعص.. والمصيبة أنها في يد الجميع.

مقالات ذات صلة