-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

عقوبة الدّنيا لا تلغي حساب يوم القيامة

أبو جرة سلطاني
  • 808
  • 0
عقوبة الدّنيا لا تلغي حساب يوم القيامة

مطلق الإنصاف لا يتحقّق بين النّاس في الدّنيا مهما كانت درجة العدل البشريّ في الأرض، فكان من عدل الله نصْب عدالة أخرى لاستئناف أحكام الأرض ونقضها وإصدار الحكم الذي لا معقّب له في ساحة عدالة تملك طلاقة القدرة على الفعل وبحوزتها دقائق الأقوال والأفعال والنّوايا وشهادة النّاس على أنفسهم: ((الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) (يــس: 65)، تشهد عليهم جلودهم وتشهد عليهم الأرض التي كانوا يمشون عليها.. شهادة حقّ تُنصف المظلوم وتقتصّ من الظالم بميزان الجزاء الوفاق الذي لا يملكه أحدٌ من البشر.

فإذا رُدّ النّاس إلى ربّهم أيقن الظّالم أنّ عذاب الله واقع به؛ عذاب يأخذ الحقّ منه ويردّه على من ظلمه بأدقّ ما تكون المقاضاة، حتّى لكأنّ عذاب الدّنيا في الآخرة مجرّد إنذار عاجل بعذاب شديد ما له من واقِ. وهو ما أكّده ذو القرنيْن بقوله: ((فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)) (الكهف: 87). ممّا يعني أنّ عقوبة الدّنيا لا تحجب عقاب الآخرة إلاّ أن تكون طهارةً بحدّ أو بقصاص أو بردّ مظالم يبتغي بها المفعول به توبةً صادقة يستعجل بها رحمة ربّه في دنياه قبل موته فيأتي ربّه يوم القيامة طاهرا. فالله -جل جلاله- لا يجمع على عبد خوفيْن ولا يتيح له أمانيْن.

  • من خافه في الدّنيا أمّنه يوم الحساب.
  • ومن آمن مكره في دنياه لقيّ الفزع في أخراه.

هذا المنهج الوسطيّ العادل، مع الرّحمة، هو شريعة الله للنّاس جميعا، فالعدل يسبق الرّحمة كون العدل فعلا مطلقا يزيده الإحسان رونقا وبهاءً وتشجيعا على نشر الفضيلة، بدليل أنّ الخطاب القرآني انتقل من حديث ذي القرنيْن إلى الأقوام الذين سكنوا بأقصى الغرب إلى حديث عن أقوام سكنوا أقصى الشّرق، بعد تقرير مبدأ العدل. فسكت السيّاق عن التّعقيب عليه وأقرّه منهجا لسيّاسة المُلك والحُكم، بعد أن خيّر الله ذا القرنيْن بين التّشدّد على النّاس والملاينة معهم فاختار منهجا وسطا بين الشدّة واللّين يعامل بمقتضاها الظّالم بالشدّة مع الحقّ وبالعدل مع الحزم. ويحذّره من عواقب ما بعد الموت والبعث.

وبالمقابل يعامل المحسن بالفضل بعد العدل وبالخير والجزاء الحسَن والتّيسير الواجب لضمان حركة الحياة في أحوالها العاديّة بتقديم الحديث عن معالجة ظلم الظّالمين عن حديث الإحسان للمحسنين ليرسّم قاعدة أصوليّة ذهبية محفوظة هي: أنّ دفع المضارّ وتقليلها مقدّم على جلب المنافع وتكثيرها. فالتّصدّي لمن ظلم وأفسد وبغى في الأرض بغير حقّ إجراء وقائيّ عاجل للحدّ من الفساد وردع المفسدين لحماية مقاصد الشّريعة وضمان تدفّق ينابيع جمال الحياة. وهذا دفع ضرر عاجل. ثم يأتي بعده ـ أو يسايره ـ جهدُ مساعدة أهل الفضل والخير والصّلاح على إمضاء خيرهم في الأرض بالتّعاون معهم على البرّ والتّقوى لتضييق منافذ الإثم والعدوان ومحاصرة دوائره.

  • فمن ظلم يُردع بعدل.
  • ومن أحسن يجازَى بإحسان.

هذا هو مبدأ دفع الضرّ عن النّاس أوّلا، وهو الأصل الوقائي. ثمّ جلب الخير لهم فالضّرب على أيدي المفسدين في الأرض، وهو العلاج الواجب. فمن لم تصدّه الوقاية ردعه العلاج، وذاك مفتاح كلّ خير ونهج كلّ حاكم عادل: ((قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ)) (الكهف: 87)، لتجفيف منابع الظّلم من صدور الآثمين كيْ يحيا النّاس حياة آمنة لا يكدّر طغيان من ظلم. ثم يكون للظّالمين مع ربّهم يوم القيامة حسابٌ آخر أثقل وأشدّ وأنكى: ((ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)) (الكهف: 87).

فإذا ضاقت دوائر المنكر اتّسعت دوائر المعروف. وإذا انحسر الشرّ شاع الخير: ((وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى)) (الكهف: 88)، هذا الصّنف من النّاس يحتاج إلى تشجيع ومساعدة ودعم ليتكاثر سواده في المجتمع. ويحتاج إلى عضد يرفد خيره ويوسّع حركة الصّلاح في الأرض لتشيع معاني الحسْن والخير في النّاس بتيسير عمل الخير وإعانة فاعليه على الاستثمار في مشاريع البّر والنّفع والجمال.

ومن واجب المسؤول تكثير سواد صنّاع الفضيلة وتقويّة عزمهم على الرّشد ورصّ صفّهم في الملمّات ومكافأتهم بأحسن ما كانوا يعملون: ((فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)) (الكهف: 88). فلكلّ إنسان جزاءٌ يناسب طبْعه وعقابٌ يوافق مزاجه فيردعه عن الزّيغ مع الهوى ويردّه إلى الجادّة إذا بغى وطغى. وهذا هو العدل الذي فقهه ذو القرنيْن.

فدين الله إحياءٌ قبل أن يكون إفناءً؛ فلا يعالج بالرّهق إلاّ من ظلم ولم يوافق الفهم السّليم والطّبع القويم والرّأي الحكيم. أما ذوو الطبيعة السويّة فيعاملهم بالحسْنى ويعينهم على إحياء قيم الخير ويوقظ فطرتهم إذا حاصرتها مُرهقات الهوى ليكون الإنسان أقرَب إلى الصّلاح بروادع الحقّ، وأبعد عن الفساد بشواهد العدل، وأكثر استواءً في المزاج بقرُبات الإحسان، فتستوي حياته على مقتضى ميزان الحسْن والقبْح.

هذا هو الإيفاءُ في الكيْل بحسْن تأويل ما ينبو من خير في النّاس: ((وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)) (الإسراء: 35)، وقد سبق بيانه في موضعه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!