-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

علاقة عبد الحميد بن باديس بالتصوف

علاقة عبد الحميد بن باديس بالتصوف

 في بادئ ذي بدء يجدر بنا تقديم تعريف مختصر جدا للتصوف،حتى يكون القارئ على بيّنة من الأمر.

فرغم تعدد التعاريف فإن ذلك لا يمنعنا من تبسيط هذا المصطلح بما يمكّن من إدراك معناه العام. ظهر التصوف في سياق تاريخيّ معيّن حين عرف المجتمع الإسلاميّ تحوّلا عميقا، من حالة البساطة في الحياة، إلى حالة المدنية المعقدة المتميّزة بالأثرة والانغماس في مباهج الحياة.

فالصوفي هو إنسان زاهد شديد التديّن ينظر إلى الدنيا بعين الزوال، على اعتبار أن “حبّ الفانية هو رأس الخطيئة”، ومن ثم فهو يجاهد النفس ويسعى من أجل تطهير قلبه من حبّ الدنيا، وتحليته بمحبّة الله والعمل على إرضاء خالقه بالمواظبة على عبادته بالفرائض والنوافل والذكر والتسبيح والتحلي بآداب التربية الشرعية. وللتصوف شيوخ كثيرون لا يتّسع المجال لذكرهم، أكتفي بذكر أبي يزيد البِسطامي(سلطان العارفين في القرن 9م)، ومنصور الحلاج، والإمام حامد الغزالي، وعبد القادر الجيلاني، ورابعة العدوية، وجلال الدين الرومي، ومحي الدين بن عربي، وسيدي بومدين الغوث، وعبد السلام بن مشيش. ومن أشهر كتب التصوف، المنقذ من الضلال لحامد الغزالى، والرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري، والفتوحات المكية لابن عربي، وغيرها.

 قد يتصورّ البعض أن الإمام عبد الحميد بن باديس كان معاديا للصوفية، ومازلنا نسمع أحيانا هنا وهناك من يردّد هذا التصور. لكن الواقع التاريخي غير ذلك كما تؤكّده نصوص التراث والبيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ في ظلها دارسا للعلم في قسنطينة وتونس. ولعل ما يؤكد ذلك بوضوح، متن ابن عاشر الموسوم:« المرشد المعين على الضروري من علوم الدين» لعبد الواحد بن عاشر الأندلسي المتوفى بمدينة فاس سنة 1630م. وكانت هذه المنظومة الفقهية تدرّس في المؤسسات التعليمية(مدارس/ زوايا/ مساجد) في شمال افريقية ومصر. وخصّص المؤلف 22 بيتا(من مجموع 314 بيتا تشكّلت منها المنظومة) لذكر التصوّف السّني. وقد نهل منها الإمام عبد الحميد بن باديس وحفظ أبياتها. فكما أن للإنسان نسب عرقيّ ينتمي إليه، له أيضا “نسب معرفيّ” يُعرف به، وهذا النسب – بالنسبة لمسلمي شمال افريقية- يتشكّل من ركائز ثلاث: العقيدة الأشعرية، والفقه المالكي، وطريقة الجُنَيْد السَّالك. والحاصل أن التصوّف كان ضمن العلوم الدينية التي يتعلمها الطالب في المغرب الإسلامي، ومن ثمّ كان يشكّل ثالث الأثافي في التديّن المغاربي. ويمكن أن أضيف إلى ذلك أن التجربة الصوفية كان لها في ماضينا أبعادا متنوعة أهمها:البعد التربوي/التعليمي، البعد التأملي، البعد الجهادي. هذا وقد شكلت سيرة الأمير عبد القادر نموذجا للتصوّف الصحيح، كانت تحظى بتقدير عبد الحميد بن باديس ورفاقه.

 إنّ أهم وثيقة تاريخية أطّلعتُ عليها تؤكد تشبّع ابن باديس بثقافة التصوّف، تتمثل في “المنظومة الرحمانية” التي ألّفها عبد الرحمن باش طرزي المتوفىّ سنة 1806م. فلمّا أعاد حفيده مصطفى باش طرزي نشرها سنة 1923م بمطبعة النجاح بقسنطينة، قام الإمام عبد الحميد بن باديس بتصحيحها وتدقيق محتواها، وبكتابة “تقديم” لها جاء فيه قوله:« ندبني الشيخ المذكور على إعانته لنشر المنظومة الرحمانية بالوقوف على تصحيحها فلبّيتُ طلبه، راجيا من وراء ذلك أن يتذكّر الإخوان ما عليهم في هذا الطريق الشّرعي من الأدب العملي والعلمي، وليعلموا أنه لا يكفيهم في ترقية نفوسهم مجرد الانتساب الإسمي، فيدعوهم ذلك إلى العلم والتعلم اللذين لا سعادة في الدّارين بدونهما ولا تقدّم. فيفقهوا حينئذ حقيقة الدين، وينتفعوا بنصائح المرشدين، ويكونوا يوم ذاك إن شاء الله تعالى من المهتدين. والله المسؤول أن يهب التوفيق والنفع والثواب لكل ساعٍ في خير المسلمين. آمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين… “تحريرا بقسنطينة (الجزائر) عشية الأربعاء، 14 شوال عام 1341هـ ، عبد الحميد بن باديس”.».

هذا وقد ذكر الشاعر محمد العيد آل خليفة في بيتٍ من قصيدته:” رعد البشائر” المنشورة في جريدة البصائر، العدد الثالث، من السلسلة الثانية، سنة 1947م، أن الإمام البشير الإبراهيمي كان أيضا صوفيا على طريقة القشيري:

– [ ويكشف عن صوفية سَلَفِيّة«» إلى وِرْدِها الصافي القشيري ألمعا] والجدير بالذكر أن محمد العيد آل خليفة، كان أيضا متصوّفا على الطريقة التيجانية، حسب شهادة الأستاذ محمد الهادي الحسني.

والحاصل أن عبد الحميد بن باديس ورفاقه في جمعية العلماء، كانوا يحاربون الانحراف في سلوك الطرقيين الذي تجلى في مظاهر الشعوذة، وأكل الدنيا باسم الآخرة، وتبرير الاستعمار الفرنسي على أنه قضاء وقدر مفروض على المسلم الجزائري، ولم يستهدفوا التصوّف في ذاته.

 هذا ومن باب الإنصاف أن أذكر أن معظم رموز المقاومة الشعبية للاحتلال الفرنسي في القرن 19م، هم شيوخ الزوايا والمعمرات الصّوفية الذين كانوا ينتمون إلى طرق متعددة (الرحمانية، والقادرية، والسنوسية على العموم) في كل أرجاء الوطن، شرقا ووسطا وغربا وجنوبا، منهم: الشيخ بوزيان/ الشيخ الحسين بن أعراب/ الشيخ محند أمزيان الحداد/ الأمير عبد القادر/ أولاد سيدي الشيخ/ الشيخ بوعمامة/ الشيخ بومعزة/ الشريف محمد بن عبد الله/ ابن الناصر بن شهرة/ الشريف بوشوشة، وغيرهم).

 لذا وجب تصحيح الصّورة النمطية السوداوية التي يختزل فيها البعض تراثنا الصوفي، لأن شطحات بعض شيوخ التصوّف هي حالة شاذة، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه كما قيل. وما زال مجتمعنا الذي يعاني من انحطاط أخلاقي ومن طغيان الأنانية والأثرة، في حاجة إلى آداب التصوّف التي أدرجها عبد الحميد بن باديس ضمن التربية الشرعية، من أجل تحصين المجتمع بخُلُق الإيثار والتآخي والتعاون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • محمد

    الشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله يصفونه بعض المتصوفة بأوصاف قبيحة و هذا دليل على مخالفته لطريقتهم. يبدوا أن كاتب الموضوع لم يتحرى الأدلة.