-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عن الملّة الإبراهيمية والبيت الإبراهيمي

محمد بوالروايح
  • 2214
  • 0
عن الملّة الإبراهيمية والبيت الإبراهيمي

قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فقد افتُتح ما يُسمى “بيت العائلة الإبراهيمية” في أبو ظبي، وانقسم المغرّدون حياله في وسائل التواصل الاجتماعي إلى أربعة أقسام، قسم استهوته الفكرة ولم ير فيها ما يناقض الإسلام، وقسم جعل منه حديثَ الساعة وحوَّل الفضاء الأزرق إلى مساحة للجدل عن علم وعن غير علم، وقسم لزم الصمت وتريَّث في الحكم حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وقسم تريَّث ووقف يترقب أي فتوى أو دعوة لإطلاق رصاصة الرحمة على الحوار المسيحي الإسلامي المتعثر الذي اتخذ منه الفاتيكان وسيلة لإحياء مجد الكنيسة وتنفيذ وصايا آبائها المؤسسين.

لكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها ولكن هناك مسائلَ ينبغي توضيحُها :

المسألة الأولى :

الملّة الإبراهيمية هي الأصل الذي تنتسب إليه شريعة موسى وعيسى عليهما السلام وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي ملة الإسلام القائم على التوحيد الخالص كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم: “ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين” (آل عمران 67). هذا الخطاب الإلهي للأولين والآخرين، يقطع الشك باليقين بشأن شخصية إبراهيم عليه السلام التي تعرّضت لتشويه منظم من كتبة العهد القديم والعهد الجديد، ويذكر عبدة البعاليم وعبدة الثالوث بالصراط المستقيم الذي تنكّبوه والحق الذي استنكفوا عنه، كيف ينتسب إلى إبراهيم عليه السلام من آذوه في زوجه وقالوا إنه رضي بالدنيَّة وأسلم حليلته لأبيمالك ملك جرار مدّعيا أنها أختُه قبل أن يأتي الله “أبيمالك” في حلم الليل ويوبخه: “ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها فإنها متزوجة ببعل” (تك 20: 30) في العهد القديم صورة مشوِّهة لإبراهيم عليه السلام الذي ينقلب من عبد بارّ إلى عبد فاجر ومن موحِّد لله إلى عابد أوثان، فكيف يعقل أن ينتسب من هذا دينه وديدنه إلى إبراهيم عليه السلام أو إلى الملة الإبراهيمية؟ وكيف ينتسب إلى الملة الإبراهيمية من جعلوا من المسيح عليه السلام البداية والنهاية وليس في كتبهم المقدسة ذِكر لإبراهيم إلا كبشر ممن خُلق يشمله الفداء الذي يشمل غيره وتدركه بركة الخلاص التي تدرك غيره؟

نتمنى ألا يكون تأسيس “بيت العائلة الإبراهيمية” وسيلة لدعم تيار التطبيع، مما يوفر للجانب الصهيوني هامشا كبيرا للحركة والمناورة من أجل تحقيق مشروعه التهويدي الذي بدأ بتهويد القدس، فهذا المشروع يشكّل خطرا كبيرا على كل الدول والشعوب العربية لأن يد الموساد يدٌ غادرة لا تُؤتمن ويُخشى استغلالها لـ”بيت العائلة الإبراهيمية” من أجل بدء عملية الهدم المنظم لمنظومة القيم الإسلامية.

إن واقع اليهودية والمسيحية اليوم يؤكد حقيقة اشتغل عليها علماء تاريخ الأديان طويلا وهي أنه ليس لليهود والمسيحيين أي صلة تذكر بإبراهيم عليه السلام فكيف يدخلون في عداد المنتسبين إليه ولملته الحنيفية؟

المسألة الثانية: إذا كان القصد من تأسيس بيت العائلة الإبراهيمية تعزيز قيم التسامح وتكريس مبدأ العيش المشترك بين أهل الديانات، فإن هذا المقصد الإنساني لا يعارضه أحد لأن الأنسنة قيمة إسلامية عليا، ولكن ينبغي أن لا يُتّخذ هذا البيت مطية لتجريد شريعة الإسلام من صفتها الخاتمة والقرآن الكريم من صفته المهيمنة بدعوى أن مقتضى العدل معاملة الأديان السماوية على قدم المساواة حتى لا يكون لأحدها فضلٌ على الآخر، فهذه الفكرة مرفوضة من أساسها لأنها تصادم نصوصا قطعية في القرآن الكريم بأنّ شريعة الإسلام هي الشريعة الخاتمة وبأن القرآن الكريم هو الكتاب المهيمن، والهيمنة هنا ليست بمفهوم الفكرة التسلُّطية كما توهَّمها بعض الحداثيين، ولكن بمعنى الوسطية التي يدلُّ عليها قوله تعالى: “وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق” (المائدة 48)، لم يفقه كثيرون دلالات هذه الآية بل عدّها بعضهم مظهرا من مظاهر ما يسمونه “العنصرية الإسلامية” التي لا ترى الحقَّ إلا في الإسلام وتُقصي وتلغي غيره من الأديان كما نطق بذلك القمّص زكرياء بطرس الذي فهم قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران 19) بأنه دليلٌ على “الأنانية الإسلامية” و”الشخصانية المفرطة” التي يبثها القرآن الكريم في نفوس أتباعه، مما يقوّض أركان التفاهم الإنساني والتسامح الديني، كما يزعم.

إنّ التأويل الصحيح لهذه الآية هو أن الإسلام هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الشرائع الإلهية، وأنه قد تضمَّن كثيرا من تعاليمها وضم كثيرا من قيمها إلى قيمه، لأن هذه التعاليم والقيم تصدر من مشكاة واحدة وهي مشكاة الوحي الإلهي، وأنها قد اكتملت في صورتها التي عبَّر عنها القرآن الكريم: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (المائدة 3)، فالإسلام وعاءٌ جامع لِما تفرّق في الشرائع السابقة مما جاء به إبراهيم وموسى وعيسى والنبيئون من قبلهم كما جاء في القرآن الكريم: “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه” (الشورى 13)، فهل حقق رواد “البيت الإبراهيمي” هذين الشرطين وهما إقامة الدين ونبذ الفرقة؟ كلَّا لم يحققوا ذلك بل يسعون على العكس من ذلك إلى محاربة الدين وتمجيد الفتنة وتسويقها إلى العالم مموَّهة بغلاف “نشر الديمقراطية ومحاربة العنصرية”.

المسألة الثالثة :

نتمنى ألا يكون تأسيس “بيت العائلة الإبراهيمية” وسيلة لدعم تيار التطبيع، مما يوفر للجانب الصهيوني هامشا كبيرا للحركة والمناورة من أجل تحقيق مشروعه التهويدي الذي بدأ بتهويد القدس، فهذا المشروع يشكّل خطرا كبيرا على كل الدول والشعوب العربية لأن يد الموساد يدٌ غادرة لا تُؤتمن ويُخشى استغلالها لـ”بيت العائلة الإبراهيمية” من أجل بدء عملية الهدم المنظم لمنظومة القيم الإسلامية التي استقرَّت على جسر من التضحيات بعد صراع مرير مع أعداء التوحيد وخصوم الوحدة.

ليس من باب التهويل القول إننا -دولا وشعوبا- قد أصبحنا لقمة سائغة وصيدا سهلا لمليشيات صهيونية تتوارى وراء شعار “حوار الحضارات والثقافات” لتستغفلنا وتجعلنا نغفل عن أسلحتنا لتعمل عملها التدميري في مجتمعاتنا، يقول الله تعالى: ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة (المائدة 102).

لا نشك في حب إخواننا في الإمارات العربية المتحدة للإسلام، ولا نشك في حرصهم على مصالح الأمة، وإن من مصلحة هذه الأمة أن تعزز بيتها الداخلي الذي تهدده كثيرٌ من الهزات التي يفتعل أكثرها ويرعاها من ينتسبون إلى “بيت العائلة الإبراهيمية”.

المسألة الرابعة:

لقد أمرنا بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم كما جاء في الحديث: “الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فليس من النصيحة تكفير المسلمين -حكاما أو محكومين- وأشجِّب في هذا الصدد ما قاله داعيةٌ خليجي مما يتنافى مع خُلق النصح ويندرج في خانة الهجوم المفضوح الذي ليس له مبررٌ في شريعتنا، ففي الإمارات العربية المتحدة مؤسساتٌ دعوية كثيرة وفضلُ هذه الدولة على الأمة العربية والإسلامية لا ينكره إلا مكابر وتجمعنا بها أواصر الماضي والحاضر، ونقطة الخلاف الوحيدة بيننا هو التطبيع الذي نراه شرًّا مستطيرا لا يأتي بخير.

المسألة الخامسة: 

قد لا يدرك كثيرون خلفيات “البيت الإبراهيمي” من وجهة النظر الصهيونية، ومن هذه الخلفيات الحلم الصهيوني التاريخي بنجاحهم في يوم من الأيام في الاندماج في المجتمع العربي الإسلامي وإزالة صورة إسرائيل المعتدية الغاصبة من أذهان العرب والمسلمين، وقد يعملون على استغلال “بيت العائلة الإبراهيمية” لجعله وسيلة من وسائل تحقيق هذا الحلم الصهيوني الذي ناضلت من أجله غولدا مايير وغيرُها، فأتمنى ألا يتحقق لهم ذلك حتى لا نخسر معركتنا مع خصومنا التاريخيين ونخسر أنفسنا.

المسألة السادسة :

لقد أصبح “بيت العائلة الإبراهيمية” أمرا واقعا وكيانا قائما وسيفرض علينا -شئنا أم أبينا- كثيرا من التحديات، ومنها أن تتجنَّد نخبُنا الدعوية والفكرية والإعلامية لمعركة الدفاع عن القيم الإسلامية التي ستكون مستهدَفة من قبل خصومنا في حال تخلينا أو تقاعسنا عن أداء واجبنا.

إن وجود الآخر لا يخيفنا طالما تمسّكنا بأسلحتنا ووظّفنا قدراتنا لهذا المسعى الإسلامي النبيل، فالتدافع سنة لا محيص عنها كما قال الله تعالى: “ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز” (الحج 40)، لقد تعودنا على مزاحمة وإحراج خصومنا في الفكر والعقيدة بالحجة والموعظة الحسنة ونحن مستعدون لأي مناظرات أو نقاشات دينية يدافع فيها الآخرون عن آلهتهم وندافع فيها نحن عن عقيدة الإله الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!