-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

.. عن تأليف الكتاب المدرسي

خير الدين هني
  • 418
  • 1
.. عن تأليف الكتاب المدرسي

يختلف تأليف الكتاب المدرسي عن تأليف الكتاب العامّ، في الشكل والمضمون والحجم والتصميم واللون والغاية، فالكتابُ العامّ ذو صيغة تثقيفية تثقيفا أكاديميا أو عامّا، لكونه يقدِّم المعرفة إلى طالبيها ناضجة طازجة، وبمستويات عليا من التناول والتعمق والتحليل والتركيب والتعميم والمقارنة والموازنة والاستنتاج أو إصدار الأحكام أو تركها للقارئ يستنتج الأبعاد والألغاز بنفسه عند التورية لأسباب تقتضيها بعض الظروف.

ويُؤلّف أيضا الكتابُ العام وفق ما تقتضيه مناهج التأليف والغاية من البحث والكتابة، ويراعى فيه المستوى التعليمي للفئة المقصودة من الكتابة، وتوضع تصاميمه وفق خطة منهجية دقيقة تقوم على الأبواب أو الفصول أو المباحث إن كانت غايته البحث الأكاديمي في التصميم، أو كانت تدخل ضمن الدراسات العليا لنيل درجات الاستحقاق، أو موجهة إلى الطبقة العليا من المثقفين وطلبة الدراسات المعمقة، أو باعتماد فهرس العناوين مرتب حسب تسلسل أحداث الموضوع، إن كان موجها إلى الراشدين ممن اكتمل نضجُهم وتعمقت خبراتهم وصُقلت تجاربهم، وتوسَّطت معارفهم وامتلكوا القدرة الذهنية على التثقيف الذاتي الذي يعتمد على مهارات القراءة الذاتية والفهم الشخصي، ومن سمات البحث الأكاديمي تميزه بالمنهجية الدقيقة والتوثيق والتأصيل والعمق والشمولية في الطرح والوضوح في الفكرة وإشراقها، وخصائص الكتاب العادي اتّصافه بالبساطة والسهولة واليُسر في التناول.

أما الكتابُ المدرسي فهو ذو طابع تعليمي تعلّمي، أي: إنه يشكل مصدرا أساسيا لبناء التعلمات ذاتيا، يستقي منه المتعلمون المعرفة الأولية التي تعتبر مفاتيح التعلّم، وإن وقع فيه إخلالٌ فني أو تقني تحدث انتكاسة التأخر الدراسي، وما يترتب عنها  من مشكلات العزوف عن الدراسة أو التسرب المدرسي، وهذا ما يطرح مشكلة تؤرق السياسة العامة للتربية والمشرفين عليها، فالكتاب المدرسي ونظرا لخطورته التعليمية التعلّمية، يشكل هاجسا مقلقا لرجال السياسة والحكم، وعلماء التربية والنفس واللسانيات والاجتماع، ومؤلفي الكتاب المدرسي والمصممين وفلاسفة الألوان والرسّامين والفنيين المدرسيين والمشرفين، لأنه يمثل مصدرا أساسيا  للعمل التربوي وبناء المعرفة وصقلها في العقول المبتدئة، ومن الكتاب المدرسي  ينتقل المتعلمون إلى مرحلة التعمق والتأمل في فهم العلوم، بمختلف أصنافها وفنونها في حقولها المختلفة، ومنه يترقى المتعلمون إلى التثقيف الذاتي من طريق المطالعة في الكتاب العامّ والجرائد والمجلات والوسائط الإلكترونية التي تنظمها حصصُ المطالعة في المناهج التعليمية، أو المطالعات الحرّة بحسب الرغبة والميول الشخصية.

وجودةُ تصميم الكتاب المدرسي وتأليفه بالشرائط الفنية والجمالية، هو الذي ييّسر للمتعلمين طرق النجاعة في بناء المعرفة والتثقيف، بمخرجات الجودة والإتقان التي تتوخاها السياسة العامة للتربية والتعليم وأهدافُهما العليا، ولذلك كان تصميمه وتأليفه من أبرز المشكلات التي تشغل بال المشرفين على التربية، لمكانته البارزة في الحياة الدراسية للمتعلمين، فمنه يبني المتعلّمون تعلّماتهم –ذاتيا- من طريق أنشطة فردية وجماعية،  يمارسها في المدرسة بواسطة الطريقة النشيطة التي تعتمد التفويج، وليس على الطريقة العمودية الكلاسيكية التي يتصدّرها المدرِّس ويوجِّه التعليم حسب إرادته ورغباته، من طريق الأسئلة وتلقي الأجوبة وقبولها أو رفضها، من غير تعميم مشاركة المتعلمين في تقييم الإجابات وتوجيه أخطائها نحو التعديل والتصويب، كما تقتضيه الطريقة النشيطة التي تعتمدها المقاربة البنائية، فالطريقة العمودية التي مازالت –مع الأسف الشديد- معتمَدة في مدارسنا اليوم، وإلى حد ما  في جامعاتنا ومعاهدنا العليا من غير أن يتفطن إلى مساوئها المشرفون، هي طريقة كلاسيكية تتساوق مع النظام التعليمي القديم الذي كان يعتمد طريقة هيربرت الإلقائية، مما جعل فلسفة التنظير المسطرة في المناهج والوثائق التربوية في واد، والتطبيق الميداني في واد آخر، وهذا ما شكل نكسة كبرى في نواتج التعليم ومخرجاته، فنسب البعض هذه النكسة إلى فلسفة الإصلاح ذاتها، وجعل البعض الآخر يمنح التزكية لمن هم من أهل ربعته وحسبته.

من غير نظر عميق في تشخيص جذور المشكلة، التي أزّمت الناتج الدراسي وأفقدت الفعل التعليمي التعلّمي ذَوَاقَه،  بما تقتضيه معايير الجودة والإتقان، التي هي من انتظارات المجتمع وأهدافه الكبرى، وبهذه الطريقة الخاطئة في التدريس والتقويم والحكم على الأشياء وأعمال الرجال وجهودهم المضنية، ضيّعت الصيف اللبن، وبقينا نسير على الدروب المظلمة في بناء المعرفة بطرقها السيكو بيداغوجية غير السليمة، لأننا فقدنا بوصلة التوجيه الذي ينشد طريق الحق في النقد والتصويب والتزكية، إذ أصبحت الذاتية تشكل معايير التقويم التربوي، فكانت الحالقة التي قضت على حركة الإبداع والابتكار، وقتلت كل نبض يشعّ في العقول النيِّرة، لأن الذاتية المقيتة هي التي تجعل الحق يُلبّس بالباطل، وتُسلب من العاملين حقوقُهم، وتتنافى مع قوله، تعالى: “فَأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ”.

والذاتية الأيديولوجية هي التي قتلت الشعوب الخاملة، وجعلتها تتكلس في دوائر وجودها، وتتجمّد حركة تفكيرها وتتبلّد عقولُها وقرائحُها، بسبب ما يسلَّط على العقول المبدعة من إجحاف وازدراء في حقهم، وما هجرة النخبة من الموهوبين المرموقين من البلدان الخاملة، إلا وجهٌ من وجوه الظلم الذي سُلط عليهم ولو كان معنويا.

وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَة*** عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ

فَذَرني وَخُلقي إِنَّني لَكَ شاكِرٌ*** وَلَو حَلَّ بَيتي نائِياً عِندَ ضَرغَدِ

الذاتية الأيديولوجية هي التي قتلت الشعوب الخاملة، وجعلتها تتكلس في دوائر وجودها، وتتجمّد حركة تفكيرها وتتبلّد عقولُها وقرائحُها، بسبب ما يسلَّط على العقول المبدعة من إجحاف وازدراء في حقهم، وما هجرة النخبة من الموهوبين المرموقين من البلدان الخاملة، إلا وجهٌ من وجوه الظلم الذي سُلط عليهم ولو كان معنويا.

ولذلك حينما نسمح لأنفسنا بتقييم الإصلاحات التربوية، أو المناهج الدراسية والوثائق التعليمية، لا نقيِّمها بذاتيتنا ولا بما قاله غير المتخصصين، ونرمي الكلام على عواهنه من غير دليل علمي أو تربوي أو نفسي، لأن المعرفة في أيِّ حقلٍ من الحقول، تُعرَف بأصولها وحقائقها المنسوبة إلى المظانّ المعروفة بمدارسها وبحوثها المحكمّة، وبالحق يُعرف الرجال وليس بالرجال يُعرف الحق، هذا إذا أردنا أن نشخّص مشكلات التربية ونقوّمها تقويما موضوعيا، والتقويمُ الموضوعي يُبنى على أقوال علماء التربية والنفس والمدارس الشهيرة، ومع الأسف فإن الذاتية الطاغية على عقولنا، هي التي كرّست الممارسات السيئة في مجتمعنا، وتحوّلت هذه الذاتية إلى أزمة نفسية أصابت العقل الجمعي، بما فيه النخبة من الطبقة العليا.

وعند التجرُّد من الذاتية، يمكن أن نشخِّص وضعية تدني المستوى التعليمي، إذ أصبح هذا التدنّي يشكل ظاهرة مستعصية، وليس حالة عابرة يمكن تداركها بمعالجة سياسية أو تقنية بسيطة، لأن الظاهرة في جوهرها هي تكرارٌ لحالات متعددة تحمل نفس الصفات والخصائص، وحينما تتحوّل الأحوال العادية إلى ظواهر، فذلك يؤشِّر إلى أن للمشكلة جذورا معقدة بتشابكها السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وحينها يصبح الأمر خطيرا يستلزم إحداث نهضة شاملة تتناول الأنساق العامة للمجتمع، وليس النظام التربوي وحده، لأن إصلاح النسق التربوي بمفرده، لا يحقق الغاية المرجوَّة، حينما تكون الأنساق الأخرى مختلّة، وتعاني من الاضطراب البنيوي وعدم التماسك.

والعدمية التي كرستها الممارسات الارتجالية، وعدم الإحساس بالمسئولية في الرقابة الصارمة وضعف التأطير السلّمي تراتبيا، واللاوعي الجمعي بالخطورة المحدقة بالمجتمع من تدني الأوضاع بما فيها مخرجات التربية، هو ما أدخلنا في التيه وأفقدنا بوصلة التوجيه نحو الوجهة المنشودة، وتسيير التدريس بالأساليب القديمة، جعلنا كمن يقود سيارة فاخرة بفراهتها وجِدّتها وتقنياتها الميكانيكية والإلكترونية، نقودها بذهنية قيادة سيارات كلاسيكية ذات تقنيات ميكانيكية بدائية، فوقع الخلل في السيطرة على سير السيارة بالسلاسة التي تقتضيها التقنيات الجديدة، وهذا هو الواقع في نظامنا التعليمي اليوم.

والشرائط الفنية لتأليف الكتاب المدرسي، تدخل ضمن العناصر المطلوبة في توفير بيئة مدرسية شبيهة بالبيئة الطبيعية، لأن البيئة المدرسية بيئة اصطناعية، ينفر منها المتعلّمون ويتبرّمون، لأنها تقيِّد حرّيتهم وحركتهم ونشاطهم ونزوعهم وميولهم ورغباتهم، فتثبط دوافعهم على التعلّم، وهي الدوافع التي تحرّك غرائزهم الخيِّرة، وتبعث في نفوسهم الرغبة والشوق والإقبال على التعلّم بما يحقق لهم النشوة والمتعة، ولكي نحبب هذه البيئة الاصطناعية إلى نفوس المتعلمين، يتعين على خبراء التربية والتأليف المدرسي والمصممين للكتاب والوثائق التربوية، أن يراعوا المعايير الفنية والنفسية والتربوية والجمالية، كيما يجعلونها عنصر جذب و تشويق، وليس عنصر نفور وضجر وملل، سأتناول معايير تصميم الوحدات الدراسية على الكتاب المدرسي في الجزء القادم إن شاء الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • سعيد

    ان السبب الرئيس في فشل المنظومة التربوية بصفة عامة انما هم المفتشون العامون والمراقبون الذين يتحملون المسؤولية الكبري والخطيرة . المفتشون لا يعبئون بما ينشر ويذاع انهم مشغولون بمصالحهم الشخصية فقط . كان الله في عون الجزائر المسكينة