-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عن حرب أوكرانيا وغذاء الجزائريين

عن حرب أوكرانيا وغذاء الجزائريين

فتحت الحرب الروسية الأوكرانية أعين الجزائريين مجددا على الحقيقة المرّة، وهي اعتمادهم الغذائي في أكثر المواد استهلاكًا على الاستيراد الخارجي المهدَّد بتذبذب الندرة الدوليّة ومستوى احتياطي الصرف الوطني من العملة الأجنبيّة، ناهيك عن تقلبات الأسواق الدولية، وهو ما يشكّل في مفهوم الأمن القومي الشامل خطرا على الاستقرار العام للدولة.

إنّ الوجه الآخر لما يجري هناك، خاصّة مع  أزمة الجفاف الحاليّة، يحفّز فينا الإرادة السياسيّة مرة أخرى، والاهتمام القطاعي والشعبي، لاستعجال تأمين غذائنا الأساسي من الحبوب، لاسيما القمح الليّن، الذي نستورده حاليّا من فرنسا وكندا وروسيا وغيرها، بينما كانت بلادُنا مصدر غذاء الأوروبيين قبل قرنين.

قبل أشهر قليلة، كشف وزير الفلاحة السابق، عبد الحميد حمداني، تحقيق الجزائر 70 بالمائة من احتياجاتها الغذائية، غير أنّ المشكلة الرئيسية هي أنّ بلادنا لا تزال متأخرة في مجال المنتجات الإستراتيجية كالقمح، وهذا غير مبرّر إطلاقا بعد 60 عامًا من استرجاع السيادة الوطنية في بلد بحجم قارّة، حباه الله بكل مقومات النهضة الزراعيّة من مساحات ومياه ومناخ وموارد بشريّة.

بل إنّ الأرقام الرسمية تؤكد استيراد الجزائر سنويا نحو 7 ملايين طن من الحبوب، منها القمح بنوعيه، في حين لا يتجاوز محصولها 2.8 مليون طن من الحبوب، منها مليونا طن من القمح الصلب، بينما تكلفها ورادات القمح اللين 1.5 مليار دولار في العام.

إنّ هذه المؤشرات تدفعنا إلى مشاطرة المدير العام للديوان الوطني للحبوب، محمد بلعبيدي، في ندائه مؤخرا، لأجل تشجيع زراعة الحبوب في المناطق الجنوبية وتقليل الواردات التي تثقل كاهل خزينة الدولة، حيث لم يتعدّ حصادُها من هذه المادة 1.4 مليون قنطار خلال الأربع سنوات الأخيرة.

لكن رفع الإنتاج في تلك المناطق، حسب أهل الاختصاص، لن يتحقق إلا  بتحفيز المستثمرين للقدوم إلى الجنوب، بمساهمة البنوك في تمويل المستثمرات الفلاحية، وما يستوجبه من حفر الآبار وجلب البذور والأسمدة واستحداث وسائل نقل مع المناطق المجاورة ومدن الشمال، حيث يتوافق الخبراء على أنّ التواضع الزراعي في ميدان المحاصيل الإستراتيجية مردّه إلى ضعف إدارة الموارد والمدخلات والمرافقة المالية واللوجيستية، ولولا ذلك لحقّقت الجزائر الاكتفاء الكامل من مادتّي القمح والشعير مثلا في الهضاب العليا لوحدها، دون اللجوء لاستصلاح الأراضي الصحراوية.

غير أنّ ما يدفع إلى التفاؤل هو التوجُّه القويّ على أعلى مستوى إلى الاستثمار في الفلاحة الصحراوية، وهو ما يتجلّى في اعتبار الرئيس عبد المجيد تبون الإنتاج الفلاحي قضية مصيرية ومسألة كرامة وطنية، ناهيك عن أوامره المتكررة عبر مجلس الوزراء بمضاعفة إنتاج الحبوب وإعادة توجيه الجهود في القطاع الفلاحي، وخاصة في الجنوب.

ما لا شكّ فيه أن الإرادة السياسية العليا حازمة في هذا الميدان، كما تظهر الرؤية واضحة في المضيّ قُدما نحو تثمين المقدرات الطبيعية لجنوبنا الكبير، وهو ما عبَّرت عنه تعليمات رئيس الجمهوريّة سابقا بخصوص “مراجعة خارطة زراعة الحبوب، ولاسيما القمح الصلب، وفق الخصائص التقنية، الجغرافية والاقتصادية لكل منطقة، وإعداد تصوُّر شامل وواقعي لإحداث ثورةٍ حقيقية في مجال إنتاج الحبوب والبذور”.

إنّ تركيز الحكومة، ضمن إستراتيجية 2024، على الاستثمار في الصحراء، خاصّة الزّراعات الصناعية الإستراتيجية التي تؤثر كثيرا على ميزان المدفوعات، يستحقُّ منّا كامل الدعم ضدّ لوبيات المصالح والبيروقراطية المستفيدة من ريوع الاستيراد والربح السريع على حساب الخزينة العموميّة وجيوب المواطنين.

وتبشّر النتائج الإيجابية المحقَّقة هذا الموسم في مجال زراعة السلجم الزيتي، وفق تصريحات مسؤولي القطاع، بإمكانية التوجُّه نحو الاستثمار في الزراعات الزيتية لإنتاج زيت المائدة والأعلاف في الموسم القادم، وهو ما سيقطع الطريق على بارونات الفساد المقنّن من “قارونات” الجزائر.

وسبق لوزارة الفلاحة الإعلان عن وضع نظام مرافقة ودعم، مع إقرار تحفيزات خاصة بزراعة الذرة الصفراء، للوصول إلى زراعة أكثر من 40 ألف هكتار، بهدف تقليص فاتورة استيرادها التي تفوق 800 مليون دولار سنويا.

كما يدخل ضمن هذا المسعى قرار الرئيس تبون بشراء الحبوب لدى الفلاحين باعتماد الأسعار المتداولة في الأسواق الدولية، لتغطية تكاليف الإنتاج وتحقيق هامش ربح يشجِّعهم على الاستمرار في هذه الشعبة.

إنّ هذه المعطيات المعبِّرة عن إرادةٍ صادقة في إنجاز الإصلاح الفلاحي تقتضي التنويه والسند المطلق من الفلاحين والخبراء والفنِّيين والإعلام، ضدّ مخططات الإفشال والتشويه والتشويش في مستويات كثيرة من بقايا العصابة المالية في البلاد، علما أن هناك أكثر من 150 ملف استثمار في الزراعات الإستراتيجية لا يزال ينتظر الموافقة لدى ديوان تطوير الزراعات الصناعية في الأراضي الصحراوية.

لذلك، فإنّ ما ينبغي إدراكه بوعي اليوم هو أنّ تطوير الزراعة في صحرائنا الكبيرة يشكّل معركة الجزائر المفتوحة ضدّ اللوبيات الداخليّة والخارجية، والانتصار فيها هو بمثابة تحرير اقتصادي آخر للأجيال وضمان لموارد آمنة مستقبلاً من “الثروة الخضراء”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!