-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مأساة بكل المقاييس

غابات الشرق تتحول إلى رماد في ساعات

عصام بن منية
  • 947
  • 0
غابات الشرق تتحول إلى رماد في ساعات

مأساة بكل المقاييس، تلك التي شهدتها الجزائر مع أيام نهاية الأسبوع، عندما اندلعت الحرائق وانتشر لهيبها عبر عدد من ولايات الشرق الجزائري، خاصة منها الطارف، سوق أهراس وقالمة، وهي وحدها كانت تضم أكبر الكتل الغابية في الجزائر، قبل أن تلتهم ألسنة اللهب أجزاء هامة منها في سويعات قليلة، مخلفة دمارا شاملا أتى على عدد من الأرواح البشرية، وتسبب في اتلاف مساحات شاسعة من الغطاء الغابي بتلك الولايات التي ظلّت وإلى وقت قريب تعرف بأنها رئة ولايات الشرق القريبة من الحدود الشرقية.

الكارثة التي بدأت منذ نهار الثلاثاء الماضي، بظهور عدد من البؤر النارية المشتعلة في مناطق مختلفة من بلديات الولايات الثلاث، منها ثلاث بؤر بولاية سوق أهراس، حيث جندّت مصالح الحماية المدنية فرقها المدعومة من محافظة الغابات، حيث تمكنت من إخماد الحرائق الثلاثة بعد مجهودات جبارة استمرت لأكثر من ست ساعات كاملة، بكل من غابة مشتة الحمري بلدية الحنانشة وغابة الخروبة ببلدية أولاد مومن، بالإضافة إلى غابة مشتة الفحيص ببلدية عين الزانة.

وقد تسببت تلك الحرائق في إتلاف مساحات هامة من الغطاء الغابي بتلك الغابات، قبل أن تعود في اليوم الموالي المصادف للأربعاء الأسود، الحرائق بأكثر حدّة، وفي مناطق متفرقة، بداية من الحريق الذي اندلع في منتصف النهار بغابة واد الشوك ببلدية الزعرورية لينتشر بسرعة عبر عشرين موقدا، ما استدعى تسخير إمكانات مادية وبشرية هائلة، من مصالح الحماية المدنية بالولاية مدعومة بالرتل المتنقل للحماية المدنية بكل من ولايتي أم البواقي وتبسة، وكذا أعوان محافظة الغابات وبعض المصالح الأخرى، وفي ظلّ تزايد انتشار بؤر النيران عبر المناطق الغابية، واستحالة التحكم فيها، سارعت مديرية الحماية المدنية بسوق أهراس، إلى توجيه نداء لكل أفرادها من أعوان أو ضباط، من الذين كانوا في عطلتهم السنوية أو حتى أولئك المتواجدين في عطلة الاسترجاع أو حتى إجازة، للالتحاق فورا بمناصب عملهم، فيما واصلت ألسنة اللهب زحفها بسرعة، في ظلّ هبوب الرياح التي صاحبتها وارتفاع درجة الجو، وصعوبة تضاريس المناطق الغابية، ما شكّل خطرا على حياة المواطنين في القرى والمشاتي النائية، وحتى بحي 400 مسكن بمدينة سوق أهراس، أين تدخلت السلطات المحلية لإجلاء سكانه، مع وصول دعم بمروحية تابعة للحماية المدنية لإخماد النيران، لكن النيران واصلت انتشارها والتهمت مساحات شاسعة من الغطاء الغابي الذي كانت تتميز به ولاية سوق أهراس، التي تشكل فيها الغابات نحو 70 بالمائة من مساحتها الإجمالية، وتحول اخضرارها إلى سواد قاتم مصحوب بحالة من الحزن والأسى وسط المواطنين، الذين استيقظوا صباح الخميس على وقع فاجعة العثور على خمس جثث لعجوز وابنتها وأحفادها الثلاثة بإحدى مشاتي الولاية ناهيك عن ما تسببت فيه من خسائر في الحيوانات والممتلكات.

مشاهد الدمار والسواد كانت حدتها أكبر بولاية الطارف المجاورة، والتي عاشت تفاصيل الأربعاء الأسود بعد أن أحاطت ألسنة النيران المشتعلة بالمحيطات السكنية بمدينة الطارف والقالة، ولم تجد المجهودات المبذولة لإخمادها نفعا في ظلّ هبوب الرياح القوية التي قاربت الـ90 كلم في الساعة، ما ساهم في سرعة انتشارها لتصل إلى محيط حديقة الحيوانات بالبرابطية أين كانت الحصيلة جد ثقيلة بوفاة العشرات من الأشخاص الذين تفحموا في محيط الحديقة، وإصابة العشرات.

كما أن تلك الحرائق والتي خلّفت مشاهد تدمي القلوب قبل الأعين، حوّلت المناطق الغابية الخضراء إلى بساط أسود حزين، ستظلّ مشاهده راسخة في كل من عايش المأساة، التي تعتبر الأكبر من نوعها على مدار التاريخ من حيث حجم الحرائق وكذا حجم الخسائر في الأرواح والغابات، التي ظلّت وإلى وقت قريب تحوي العديد من أصناف الأشجار والطيور النادرة، لكنه وفي ساعات قليلة تغير المشهد إلى صور درامية محزنة، اهتزت على وقعها مشاعر كل الجزائريين وحتى الأجانب. المأساة لم تقتصر على ولايتي سوق أهراس والطارف فحسب، بل أن ولاية قالمة، هي الأخرى عاشت مشاهد رعب كبير منذ الثلاثاء الماضي، بعد انتشار سلسلة من الحرائق المدمرة في عدّة نقاط ومناطق غابية بإقليم الولاية، التي سجلت بين يومي الثلاثاء والأربعاء ما لا يقل عن 23 حريقا، تسببت في اتلاف مساحات شاسعة من الغطاء الغابي بالولاية، خاصة بغابة جبل بني صالح، الممتدة إلى ولايتي سوق أهراس والطارف المجاورتين، أين التهمت ألسنة اللهب مساحات غابية شاسعة ظلّت تزخر بها الولاية، التي تضم المحمية الطبيعية والتي تتوفر على عدّة حيوانات وطيور نادرة منها الأيل البربري.

وقد تدعمت جهود فرق الإطفاء الميدانية بطائرتي هليوكوبتر تابعتين للجيش الوطني الشعبي، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الثروة الغابية، التي تلتهم منها النيران مع كل فصل صيف المئات من الأشجار الخضراء، وتترك صورا سوداء قاتمة ومشاهد تهتز لها الأنفس، كما خلّفت النيران المشتعلة في الجهة الجنوبية بإقليم الولاية وتحديدا ببلدية عين العربي وفاة شخص نتيجة الاختناق بالدخان الكثيف المتصاعد من الحريق. على الرغم من الأمل المتجدد مع كل نهاية صيف، بإعادة إعمار الغابات المحروقة، وشنّ حملات تطوعية لإعادة تشجيرها، إلاّ أن مشهد الكارثة يتكرر مع فصل كل صيف، حيث تشهد المناطق الغابية حرائق مدمرّة، تتسبب في إتلاف آلاف الهكتارات من المساحات التي تحوي أشجارا خضراء باسقة، من مختلف الأصناف، تصنع ديكورا مميزا بولايات قالمة، سوق اهراس والطارف، التي تشتهر بتلك الغابات، والتي ظلّ بعضها قبلة للعائلات الباحثة عن الراحة والاستجمام وسط الطبيعة العذراء، وحتى عابري الطريق من المتنقلين بين الجزائر وتونس، والذين كانوا يفضلون النزول على جوانب تلك الغابات لقضاء بعض الوقت من رحلتهم بين البلدين، لكن تلك الأماكن وللأسف اكتست اليوم بساطا أسود حزينا يبكي القلوب قبل الأعين، وأضحت الولايات الثلاث مهددة بالتصحر بعد أن فقدت أجزاء هامة من الكتل الغابية التي ظلّت على مدار عدّة عقود درعا واقيا من زحف الرمال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!