الرأي

فتنة الجهوية.. ومستنقعاتها

التهامي مجوري
  • 3369
  • 20

الجهوية فتنة مهما كانت مبرراتها ودواع بعثها، فهي واقع غير طبيعي لا يقبل الاستمرار، وإذا استمر دمر، وأول ما يدمر أهله المفتخرون به، ومن ثم فإنها لا تستطيع العيش إلا في مستنقع الأزمات السياسية والإجتماعية التي تُضْعِف المركز، فتتقوَّى الأطراف الفاسدة وتفرض قيمها على المركز فيتوهمها حقا فيعمل على إقرارها.
فمنذ أكثر أربع سنوات كتبت في هذا الركن مقالا بعنوان “ثقافة الدولة وثقافة الدشرة”، ولم يكن يعنيني يومها الإشادة أو الذم بهذه الثقافة أو تلك، بقدر ما كنت أريد إبراز الفارق بين الثقافتين وقلت يومها “والمتعامل مع الجهتين –الدولة والدشرة- مواطن واحد، فهو في إطار الدولة مواطن عليه واجبات وله حقوق، وفي إطار الدشرة مواطن عليه واجبات وله حقوق أيضا، ولكن هذه الحقوق والواجبات، يصل إليها هذا المواطن ويمارسها في إطار الدولة والدشرة بثقافة الدولة أولا، عندما يكون مواطنا راقيا، أما عندما ينحدر إلى الأسفل فإنه لا يستحضر إلا ثقافة الدشرة، في تعامله مع الدولة وفي تعامله مع الدشرة.
والمشكل في اعتقادي ليس وجود هاتين الثقافتين الكلية والجزئية –ثقافة الدولة وثقافة الدشرة-، وإنما هو في العقلية التي يحملها المثقف والمسؤول في بلادنا، وهو يمارس مهامه في إطار مؤسسات الدولة والمجتمع، حيث يجر معه منطقه الدشروي ببساطته إلى رحاب الدولة العريض بجميع تعقيداته” [الشروق أونلاين بتاريخ 15/05/2014].
والباعث على كتابة المقال يومها، هو مشكلة الجهوية التي تنخر المجتمع، عند جميع الفئات وفي كل المستويات، ولم أرد عرض الموضوع بمرارته يومها؛ لأنني كنت أعتقد أن امتصاص مفاسده ممكن وبيسر وسهولة، كما فعل رجال الحركة الوطنية خلال نشاطاتهم الإصلاحية والتعبوية في ثلاثة عقود فقط، فقمعوا الفكرة الجهوية في مهدها، ولم يتركوا لها مجالا تنتعش فيه، حيث قال ابن باديس في إحدى روائعه “ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان”، وكما فعل السياسيون أيضا في إخماد فتنة “البي بي كا” فيما يعرف في تاريخ الحركة الوطنية بـ”الأزمة البربرية”.
وها هي الأيام تعيد هذه الجرثومة للساحة الوطنية من جديد، بحيث أصبحت الشغل الشاغل لكل مهتم بالشأن العام، فلم يعد هناك كلام عن الفساد والإنحرافات السياسية، ولا عن التفسخ الأخلاقي وتميع المجتمع، بقدر ما أضحى الانشغال بالخوف على الوحدة الوطنية من التمزق.
لقد عادت الدشرة بجميع أصولها وفصولها، ليتحول ما كان في الحركة الوطنية أزمة إلى “مكسب سياسي للوطن” بدسترة الأمازيغية، والتغني بأمجادها وأجوادها..، رغم أن الفكرة ومن وراءها ومراميها كلها لا تمت للقيم الوطنية بصلة، إلا في جانب ثقافي لا يمثل شيئا بالنسبة للأبعاد الوطنية الكلية.
والجانب الثقافي هام بلا شك يجب الاهتمام به، وصحيح أن هناك ضبابية في السياسة الثقافة ببلادنا واللغوية منها، ولكن ليس بالمعنى الذي يروج له أصحاب هذه الفكرة، ولا بالمستوى الذي فرضته السلطة على الشعب، اللهم إلا إذا اعتبرنا الحركة البربرية حركة قومية عرقية لا تختلف عن بعض القوميين العرب أو حركة الأكراد في العراق وتركيا وسوريا وإيران، أي ذات بعد انفصالي.
وما ساعد على عودة جرثومة الجهوية هذه، أنها في بلادنا تشبه إلى حد بعيد الطائفية في المشرق، ولا تختلف عنها في آثارها السيئة على المجتمع..، لأنها ذات جرح غائر في جسم الأمة منذ أمد، ولكن الأمة كانت محمية من آثارها السلبية، بالتمسك بالقيم الدينية والأخلاقية والسياسية الوطنية، وكلما ضعف التمسك بتلك القيم كشرت الجهوية عن أنيابها.
فالإسلام كان ولا يزال هو دين هذه الأمة، وإسمنت هذه البلاد، والأعراف الإجتماعية الصالحة، والقيم الحضارية الفاضلة، والوحدة الوطنية الجامعة، كل ذلك كان ولا يزال الوعاء الحامي للبلاد والعباد..، ومع الأيام وتوالي الأزمات السياسية والأخلاقية والإجتماعية، ذبلت جذوة تلك القيم وإشعاعاتها، وضعف التمسك بها جيلا بعد جيل، وتضاءل شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى المستوى الذي نراه ونتجرع مرارته اليوم..، من تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ وتشتيت المشتت…، والتشكيك في كل قيمة جامعة، وربما يأتي اليوم الذي نبحث فيه عن لملمة الموضوع بأي ثمن ونعجز –لا قدر الله-
لكل ذلك أسباب وأهمها السبب الثقافي والسياسي، سواء بفعل السلطة التي لم يكن يعنيها إلا كتلة النظام ووحدتها لضمان تمرير مشاريعها السياسية، أو بسبب تخلي النخبة عن أداء عملها التثقيفي الذي يحمي المجتمع من السلبية في جميع المجالات، أو بفعلهما معا فـ”تلاقاو على خلاها”، والشعب بطبيعة الحال عندما يفقد البوصلة في الدولة والمجتمع، اللذين تبنيهما السلطة والنخبة –المجتمع المدني-، فإنه يعود إلى ثوابته المتفق عليها في الدشرة، وقيم الدشرة لا تبقى ساكنة وإنما تتطور مع الأيام إلى مشروع مجتمع ممسوخ، يحل مع المشروع الوطني الجامع، مثلما هو الحال في الفكر الطائفي تماما، يحاكم الأصول إلى الفروع.
فأول المأساة كانت في بداية الاستقلال، عندما أخذت معارضة الأفافاس الطابع الجهوي..، رغم أن المعارضين كانوا كثر من إخوان آيت أحمد.. كما يذكر جيدا جيل الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات، عندما كان الشعب ينتقم من النظام ببغض الشاوية وكرههم فيما كان يعرف بـ:”BTS” يعني [باتنة وتبسة وسوق أهراس].. وما كان يشاع عن الشعباني بأنه كان جهويا وانفصاليا في معارضته للنظام يومها.. كما نذكر في سنوات الثمانينيات، فقد عملت الدولة الجزائرية، على ترحيل بعض سكان البيوت القصديرية في العاصمة إلى بلدانهم الأصلية..، ولا يزال أهل المدن والعواصم الجزائرية يتندرون بأهل القرى والبوادي إلى اليوم، “كافي.. دبرش.. كعبة.. كابتك ولايتك.. تديك الكار الصفراء…”
وأذكر في تسعينيات القرن الماضي تصريح المجاهد حسين آيت أحمد رحمه الله الذي يرحب فيه “بالجهوية المليحة”، وذلك في إطار تبريره للنظام الفدرالي الذي كان يطالب به…، كما يذكر الجزائريون صدور كتاب عن وزارة الشبيبة والرياضة في عهد عزيز درواز، يعرِّف بالجزائر، ويقسم الشعب إلى فئات متفاوتة.. فئة من القيادات العلمية والإدارية والثقافية.. وفئة من الفلاحين والرعاة.. وفئة.. وفئة..، ليوزع الكتاب في لبنان في تظاهرة رياضية…، وقد كشف أمر هذا الكتاب في البرلمان وقال يومها الأستاذ بوقرة رحمه الله نائب عن حركة النهضة يومها “من هذا الحركي بن حركي الذي سمح لنفسه بتقسيم البلاد بهذه الصفة؟”.
وهذه الأيام يطلع علينا مجموعة من الأئمة من أهل الجنوب برسالة موجهة إلى معالي وزير الشؤون الدينية والأوقاف، يشتكون فيها من تصرفات موظفة في مديرية الشؤون الدينية بولاية سوق أهراس، وهي إحدى ولايات الشرق الجزائري، بسبب المعاملة العنصرية والجهوية، والتهديد المباشر بـ”ترحيلهم جماعيا” إلى ولاياتهم الأصلية التي جاءوا منها، هكذا بالجملة باعتبارهم دخلاء على الولاية!!؛ بل إن أحدهم كتب… قبل سنوات مقالا في جريدة جهوية بعنابة يبرز فيه تذمره ومعاناته من “غزو التجار السوافة” لمدينة عنابة، بحيث عبر عن سوء طويته بقوله “السوافة وكَّالين الكلاب”..
إن منطق الجهوية والدشروية يقوى وينتعش في الأزمات السياسية والإجتماعية، كما أسلفنا في صدر هذا الموضوع، ولذلك كانت في أزمات صائفة 1962، وأزمة التسعينيات، والأزمة الحاصلة هذه الأيام، أقوى ما تكون مهددة للوحدة الوطنية، ولذلك وجب الانتباه لأهمية الفعل المضاد، ليضمر ويضعف المنطق الجهوي، بالعمل على ضمان الحريات وانتشار العدل وتكثير نشاط المجتمع المدني؛ لأن ما يجمع المجتمع الجزائري أكثر بكثير مما يفرقه، والجامع من الأفعال والغايات هو الذي يحقق الهوية الجزائرية التي تجمع ولا تفرق، وليس المسألة الأمازيغية، أو استبعاد الحراك الجنوبي، عن الحراك الوطني العام.

مقالات ذات صلة