-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فتُورنا وثباتهم!

سلطان بركاني
  • 501
  • 0
فتُورنا وثباتهم!

من أهمّ أسباب ظاهرة الفتور والانتكاس بعد رمضان، أنّنا أصبحنا نرى الجمع بين الصيام والقيام وتلاوة القرآن والبذل والمحافظة على الصّلوات الخمس في أوقاتها في بيوت الله، عملا شاقا ومرهقا، ونظنّ أنّ من البطولة أن يستمرّ عليها الواحد منّا شهرا كاملا! فإذا استمرّ فإنّ من حقّه أن يخلد بعدها إلى الراحة. ومن هذه الراحة يأتي البلاء، لأنّ النّفس الأمارة بالسّوء إذا ذاقت تاقت!

إنّ سبب الفتور الذي أصاب هممنا والخور الذي أخمد عزائمنا، هو قلوبنا التي قست من ذكر الله، وأمسى ذكر الله ثقيلا عليها، وهذه حال خطيرة أخطر علينا من مرض السرطان ومرض تليف الكبد، يقول الله تعالى: ((فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)).. قلوبنا القاسية أنستنا أنّنا لسنا في هذه الدّنيا لنأكل ونشرب ونتمتّع؛ فهذه حال صنفين من المخلوقات: الأنعام، والذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فهل يليق بي وبك أخي المؤمن أن نكون من أحد هذين الصّنفين؟! ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ))؟ حاشاي وحاشاك أخي المؤمن أن تكون كذلك؛ فأنت عبد تؤمن بأنّ الدّنيا زائلة وأنّ هناك حسابا بعده ثواب أو عقاب، جنّة أو نار؛ فلتحيا حياة تكون فيها طاعة الله محور حياتك وهمّك الأكبر الذي تحمله. جدّد نيتك واعقد عزمك بأن تكون أشهر حياتك كلّها رمضان.. تأمّل وتدبّر كيف أنعم الله عليك نعمة عظيمة ومدّ في عمرك حتّى بلغت رمضان، وعشت أياما ذُقت فيها حلاوة الطاعة ولذة القُرب من مولاك الكريم جلّ في علاه، فهل يليق بك أن تكفر النعمة بعد انقضاء الشهر؟ هل يليق بك أن تنقض في شوال غزلا غزلته في رمضان؟! ألا تستحيي من الله أن تترك الصلاة في بيته بعد رمضان وتهجر مصحفك وتغلق جيبك، كأنّك مستغن عن فضل الله زاهد في رحمته؟!

هذه الحال التي ارتضاها كثير منّا، تختلف تماما عن حال سلفنا الأوّلين الذين كانوا ينظرون إلى المحافظة على الصلوات والصيام والقيام وتلاوة القرآن وبذل الصّدقات، على أنّها وظيفة العمر، وأنّها الحدّ الأدنى التي لا يُسمح للنّفس بالنزول دونه، فكان رمضان بالنّسبة إليهم محطّة للزّيادة على الحدّ الأدنى، وشحن الأنفس، حتى تستمرّ على الاجتهاد عاما كاملا.. كانوا يتمسّكون بطاعة الله ويثبتون عليها كأنّما هي دمهم الذي يسري في عروقهم. هذا -مثلا- رجل من التابعين يسمّى الحسن بن صالح، كانت حياته كلّها رمضان، وكانت له جارية صالحة تعيش رمضان في كلّ شهر.. قرر أن يبيعها، وحينما وصلت إلى بيتها الجديد، كانت إذا صلت العشاء قامت تصلي أول الليل، ثم تقوم آخر الليل وتصلي إلى قرب الفجر، ثمّ تنادي أهل الدار: يا أهل الدار! قوموا فصلوا. فيقولون لها: نحن لا نقوم إلا عند الفجر. فإذا كانت أيام الصيام أيقظتهم عند السّحر، فيقولون لها: نحن لا نصوم إلا شهر رمضان.. فما كان منها إلا أن عادت إلى الحسن بن صالح تشتكي إليه وتقول: بعتني لقوم سوء ينامون الليل كله، لا يصلون إلا الفجر، ولا يصومون إلا الشهر. أخاف أن أكسد! ردني ردني. فرأف بحالها فردها.

هكذا كان شأن عباد الله الذين فهموا حقيقة الحياة؛ أشهُرهم كلّها رمضان، بل حياتهم كلّها رمضان.. يحزنون لفراق رمضان، لكنّهم لا يودّعونه، بل يصطحبونه إلى باقي الأشهر، فيعيشون لياليه في كلّ ليلة، ويعيشون أيامه في كلّ يوم، حتى وإن لم يكونوا صائمين عن الطّعام والشّراب، فإنّهم يصومون عن النّظر إلى الحرام وعن قول الحرام وعن سماع الحرام.

فيا أخي المؤمن. إذا كان رمضان قد رحل، فإن أبواب الله لا تغلق، وبابَ التوبة سيبقى مفتوحا حتى تقوم السّاعة أو تبلغ روحك الحلقوم، وكل يوم يبزغ فجره وأنت في عداد الأحياء، تستطيع أن تبدأ فيه من جديد وتفتح فيه صفحة جديدة.

إذا لم يؤثّر فينا النّظر في أحوال الأوّلين، فهلا تحرّكت قلوبنا لأحوال إخواننا في أرض البلاء؟ هلا راجعنا أنفسنا ونحن نرى ثبات إخواننا المسلمين على دينهم وتشبثهم به رغم البلاء الشّديد الذين يتعرّضون له، في غزّة وفي تركستان الشرقية وفي سوريا وفي كشمير… ثباتهم العجيب على دينهم تنقله لنا الكاميرات بالصوت والصّورة، ونرى كيف أنّهم يحمدون الله على ما هم عليه من بلاء، ويصلّون الجماعة في الشّوارع رغم القصف ورغم البطش والتنكيل؛ فلا موت الأهل والأولاد يكسر عزائمهم، ولا هدم البيوت والمساجد يرهبهم أو يقعدهم عن طاعة الله. الواحد منهم يفقد أسرته كاملة، وينتشل أشلاء أبنائه من تحت الأنقاض، فلا ييأس ولا يتسخّط، ولا يترك صلاته ولا مصحفه. حتى أنّ أحد الأعداء قال: “إنهم ليسوا كسابقيهم الذين كنا نحاربهم من قبل”.. لقد رأينا هذه الأيام مقاطع وصورا لإخواننا المسلمين في كشمير يصلّون الجماعة في الشّوارع، فتأتي القوات الهندية لتفرّقهم بالقوة، وهم صامدون رغم الضّرب والرّكل والرفس، أفلا تجعلنا مثل هذه الصور نستحيي من الله ونحن الذين نصلّي في بيوتنا ونهجر المساجد بعد رمضان، ونحن في وخير وعافية وأمن وأمان؟!

فكّر جيّدا أخي المؤمن، يا من تركت الصلاة في المسجد مع أول يوم بعد رمضان. إنّك في نعمة ستسأل عنها بين يدي الله، والنعمة تدوم بالشكر وتزول بالجحد والكفر. طاعة الله يجب أن يكون لك منها حدّ أدنى لا تنزل عنه مهما تكن الظّروف والأحوال، وليس يصحّ أو يليق أن تبقى الصلاة وحضور الجمعة وتلاوة القرآن هوامش في حياتك تمتنّ عليها بالأوقات المستقطعة من دنياك.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!