-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

فرقٌ بين القصّة وبين منهج الحياة

أبو جرة سلطاني
  • 533
  • 0
فرقٌ بين القصّة وبين منهج الحياة

أتاح الله لذي القرنيْن خدمة الأسباب التي بها يتمّ التّمكين في الأرض؛ فلم يبتدع من عند نفسه أسبابا إضافيّة ولكنّه اتّبع ما وجده مسخَّرًا له من ربّه لإدراك مُناه وتحقيق مقاصده وتذليل الصّعاب المانعة من بلوغ ما يريد بما هو مسخّر له بوسيلتيْن: تمكين الله له في الأرض بسلطان القوّة والقدرة على الحركة الواسعة فيها يتبوأ منها حيث يشاء. وتيسير الأخذ بالأسباب بشرْط اتبّاع نواميسها. وهو ما فعله في ثلاث جولات طويلة جمعت بين مطلع الشّمس ومغربها وما بين السدّيْن في حركة جامعة بين المشرقيْن والمغربيْن.

فأتْبع سببا حتّى بلغ مغرب الشّمس. ثم اتّبع سببا حتّى بلغ مطلعها. ثم اتّبع سببا حتّى بلغ بين السدّيْن. فلما أنجز ما كان مسخّرا له -بقوّة وعدل- ردّ الأمر كلّه لله: ((قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)) (الكهف: 98). هذه خلاصة ما مكّن الله له، لكنّ تفاصيلها أعمق وإشاراتها أبلغ ودروسها أنفع. فهو لم يكن مجرّد رجل طاف الأرض ومات إنما كان منهج حياة خلّد الوحي آثاره.

فالجولة الأولى كانت تلقاءَ مغرب الشّمس من المدار الذي تحرّك منه شرقا باتجاه الغرب: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)) (الكهف: 86). من السيّاق يبدو أنّ خطّ سير ذي القرنين أخذ وجْهة مستقيمة باتّجاه الغروب حتّى بلغ خضخاضة واسعة تشبه البحيرات الوَحلة كثيرة الطّمْي، فلما توقّف على حافّتها من جهة المشرق، ظلّ يراقب الشّمس وهي تميل إلى مغربها، فبدا للعين كأنّها تغوص في أوحال البحيرة، كما تبدو للنّاظر عندما تتوارَى خلف أمواج البحر على الضفّة الأخرى المواجهة لمن هو واقف يراقب مشهد الغروب. وهذه آية من آيات الله يغفل عنها من ألفها فصارت له عادة.

فصيغة: ((فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)) (الكهف: 86)، تفيد استحالة تقدّم ذي القرنين تلقاءَ موضع غروبها لافتقاره لأسباب السّير وسط الطّمْي المُوحّل على امتداد شاسع في البحيرة التي تجعل غروب الشمس فيها كأنه غمْرُ شيْء مادّي في ميّاه كثيرة غزيرة ممتدّة إلى أقصى أفق العين، مخلوطة بالطّمْي والأوحال حتّى كأنّ الشّمس غطست فيها.

بهذا المعنى يصبح كلّ ما قيل حول تحديد هذا المكان في بلاد فارس أو في بلاد الرّوم أو الهند أو على شاطئ دجلة والفرات أو النّيل أو في جزر المالديف.. كلّها تخمينات افتراضيّة لا سند لها سوى التّرجيح؛ قد يكون بعضها صحيحًا بتوفيق الله لمن اجتهد، ولكنّ أغلبها يظلّ مجرّد رجْم بالغيب.

أما الثّابت الذي تشي به مفردات هذه الآية فهو أنّ حاجزًا من طين وطمْي ووحْل حال دون تقدّم ذي القرنيْن باتّجاه حركة الشّمس نحو مغربها، فأدرك أنّ الأسباب التي أوتيها ليست طليقة، فهي أسباب تمكين وليست أسباب قهر وهيمنة، فاكتفى بما بلغه من مغرب الشّمس وتوقّف على حافّة البُحيْرة يرْقُب حركة الشّمس ويستمتع بمنظر غروبها وبمشاهدتها وهي تهوي في عيْن حمئة وتغوص فيها وتتوارى عن نظره.

كان في هذه الأرض الرّطبة، وحول هذا المكان الموحل، أقوامٌ بدائيّون يعيشون على حياة الصّراع والتّدافع والغزْو والتّنازع حول حقّ تملّك هذه المواقع لما تتمتّع بع به من خصوبة، ولما فيها من ثروات وخيرات، فأراد ذو القرنيْن أن يضع لهم سياسة تعايش سلمي وتساكن متعاون وحسْن جوار، فأوحى إليه ربّه، بكيفية ما كالتي أوحى بها إلى أمّ موسى مثلا، بأنْ يستخدم فضيلة التّمكين في الأرض ليفرض على الطّرفيْن قواعد العدل والخير والصّلاح بردع الظّالمين وتشجيع المحسنين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!