-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في البحث والابتكار: أوروبا قَلِقة!

في البحث والابتكار: أوروبا قَلِقة!

في 31 أوت 2021، انتهت عهدة الخبير الفرنسي جون بيير بورغينيونBourguignon كرئيس لمجلس البحوث الأوروبي (ERC) التي دامت نحو8 سنوات. ويُعدّ هذا المجلس أكبر وكالة أوروبية لتمويل البحوث العلمية. والأستاذ بورغينيون (74 سنة) من كبار الرياضياتيين والخبراء في متطلبات البحث العلمي. وبمناسبة توديعه رئاسة المجلس الأوروبي أجرت معه مجلة “العلم والمستقبل” Science et Avenir مقابلة، أعرب فيها عن قلقه بشأن التأخر الذي تعرفه أوروبا في تمويل العلوم رفيعة المستوى معيبًا قِصر نظر هذه القارة في مواجهة المنافسة الشرسة مع الولايات المتحدة والصين.

آه على أوروبا!
كان جون بيير بورغينيون قد صرح عام 2020 : “إذا لم تستدرك أوروبا وعيها، ولم تُعد التفكير في كيفية استخدام موهبتها العلمية من أجل الحفاظ على دورها في العالم، والحفاظ على قيمنا المشتركة فسوف تعرف انحطاطا قلّ نظيره في المجال العلمي”. ذلك أن الولايات المتحدة والصين تضعان البحث والنموّ من أولوياتهما السياسية. هذا ما يصرح به اليوم الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يعتبر البحث العلمي ضروريًا لتحديث وتنشيط الاستراتيجية الأمريكية في العلوم والتكنولوجيا. أما الصين فقد أعلنت عن زيادة بنسبة 7% سنويًا في ميزانية البحوث الأساسية ضمن الخطة الخماسية الجديدة 2021-2025.
عندما سئل الأستاذ بورغينيون عن الفرق بين البحث والتكنولوجيا والابتكار والعلاقات بين الدول المتقدمة ضرب مثلا باللقاح ضد كورونا وما جرى من تنافس شرس بين دول العالم (سيما بين أوروبا والولايات المتحدة) في عهد الرئيس ترامب.
من المهم أن نشير إلى أن مجلس البحوث الأوروبي أنشئ عام 2007 بهدف تمويل البحث العلمي والابتكار. ويتم تقييم الأعمال من قبل هيئات تحكيم دولية موزعة إلى 27 محورا علميا. في كل عام، يبرم عقودًا بحثية مع العلماء والباحثين الذين يمكن أن يأتوا من جميع دول العالم ضمن عملية استقطاب المواهب من كل أرجاء المعمورة. في الوقت الراهن، يشارك في هذه المشاريع كل سنة نحو ألف باحث بعقد يدوم نحو 5 سنوات. ويطلب المجلس عموما من هؤلاء الباحثين أن يجروا أبحاثهم في دولة من دول الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن، استفاد أكثر من 10 آلاف باحث وعالم من هذه العقود، علما أن كل مشروع بحث يكلّف المجلس ما بين مليون و 3.5 مليون أورو.
وهذا المجلس لم يعد يكفي لدعم الابتكار في أوروبا. ولذا، سيتم إنشاء مجلس أوروبي ثان يسمى مجلس الابتكار (EIC) لأنه يوجد في أوروبا “مجتمع” علمي، لكنه لا يوجد مجتمع “ابتكار” من نفس الطبيعة خلافا لما هو الحال في الولايات المتحدة والصين. يقول بورغينيون إن الطريقة الوحيدة للحصول على نتائج ذات وقع كبير على المستوى العالمي هي أن تكون المشاريع البحثية جدّ طموحة ومحفوفة بالمخاطر. وبدون عامل المخاطر سوف نكتفي بالتقدم العادي في البحث العلمي. وهذا الأخير أمر ضروري غير أنه لا يُحدث تقلّبا في الموازين على الصعيد العالمي. وتأثير عامل المخاطر مرتبط بحالات الطوارئ الكبرى في العالم (مثل تغيّر المناخ، والانتقال الطاقوي، والتحولات البيئية…).
ويلاحظ بورغينيون بمرارة أن الأنظمة السياسية التي تبني دائما إستراتجيتها على متطلبات الانتخابات المقبلة لا تهمها المشاريع الاستثمارية طويلة المدى في مجال البحث العلمي، وتفضل المشاريع قصيرة المدى التي لا تفي بالحاجة. وهذا خطأ فادح لأن مثل هذه المشاريع لا تشجع في أغلب الأحيان روح الابتكار : إذا كسرنا سلسلة إنتاج المعرفة، التي تتضمن التكوين، والتشجيع على أن نكون مبتكرين، فسوف يتطلب الأمر عشرات السنين لبلوغ مستوى مقبول في مجال التقدم العلمي.

أوروبا تلهث وراء الابتكار
ويشير بورغينيون إلى مثال يتعلق بالابتكار في مجال الإسكان الذي يتمّ فيه إهدار الكثير من الطاقة. ويتساءل هل سنكون قادرين على ابتكار مواد جديدة، أكثر عزلًا، وأسهل بكثير للتحويل أو الإزالة، ضمن اقتصاد تدويري؟ هذا ما يجعل من الضروري تطوير هندسة جديدة ليست موجودة الآن. يتطلب ذلك فهم سلسلة كاملة من الظواهر الأساسية. ولذا ليس من قبيل الصدفة أن يدرج مجلس البحوث الأوروبي موضوع “هندسة المواد” كمحور أساسي في مجال “العلوم الفيزيائية والهندسة”. وقد جاءت هذه المبادرة نتيجة ضغوط متزايدة من الباحثين العاملين في هذه المجالات وليس نتيجة توجيهات سياسية أو أوامر حكام.
ليس سرا بأننا لا نستطيع بلوغ حلّ جذري لأي مسألة علمية إلا عندما نفهمها بعمق، مما يعني وجوب إعطاء وقت كاف لهذه المرحلة من البحث العلمي (فهم المسائل فهمًا عميقا). فقد يتطلب تحليلها إنشاء نماذج جديدة تتطلب جهدًا كبيرًا وخيالًا متجددًا. هذا ما حدث مثلا مع تحديد دور الحمض النووي في الوراثة. ولذا يستغرب بورغينيون من كون المتتبع في أوروبا لا يجد لفظ “بحث” ولا لفظ “ابتكار” في نصوص الأولويات التسع التي تمّ تبنّيها لدى التحضير لمؤتمر “مستقبل أوروبا” الذي سيعقد خلال ربيع عام 2022! فهل يمكن مناقشة مستقبل أوروبا دون مناقشة تنظيمها لموضوع البحث العلمي والابتكار؟!
وتقارن أوروبا وضعها الاستثماري في المجال العلم والابتكار بالوضع في الولايات المتحدة، فيلاحظ بورغينيون أن المستثمرين الأمريكيين، خلافا للأوروبيين، “يضعون بيْضهم في سِلال متعددة”. إنهم يجازفون لأنهم لا يعرفون في البداية ما الذي سينجح من المشاريع. ولذا فهم قادرون على الانسحاب مبكرًا عندما يدركون أن مشروعا معينا لن يكون ناجحًا. فما يحتاجون إليه في هذه الاستراتيجية هو أن ينجح عدد مناسب من تلك المشاريع. ثم يشير إلى أن وتيرة الابتكار في الولايات المتحدة أعلى بكثير من وتيرة البحث الأكاديمي عكس ما هو عليه الحال في أوروبا.
وسألت المجلة بورغينيون: “كيف يمكن لأوروبا، أمام الولايات المتحدة والصين، أن تواجه التعاون والمنافسة في مجال البحث؟ ألسنا في حالة حرب؟ فيجيب : “لا أريد أن أضع نفسي في منطق الحرب، لأن المعرفة خير للجميع. فالظاهرة الجديدة هي أن الاستثمارات طويلة المدى التي تسمح للباحثين الموهوبين بتطوير أنشطتهم تؤدي إلى تحسين جودة إنتاجهم. هذا ما نلاحظه في بلد مثل الصين. إننا نشهد زيادة مذهلة في ثقل البحوث الصينية التي يتم الاستشهاد بها لدى الباحثين في العالم”.
ذلك هو الحال في أوروبا، وهي ترمي إلى بلوغ مستوى الولايات المتحدة والصين في مجال البحث العلمي والابتكار. واليوم، بعد طول انتظار، يجتمع أعضاء أكاديمية العلوم والتكنولوجيا الجزائرية. وما نتمناه هو أن يعمل هؤلاء الخبراء على وضع خطة للبلاد تنير الطريق أمام أصحاب القرار في هذا الحقل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • كل شيء ممكن

    كون قعد Les coopérants français هما لخرج لنا أحسن أطباء ومهندسيين وبُحتاء للهجر للخارج لإنعدام لبُنية تحثية العلمية ونهج ومشارع الدولة الثي سعى للتطور . حثي اليوم نحارب Une société de services ذات كفائة ونخلفها بي les bras cassés كي تتو قف سنة أو سنتين من بعد أو تبقى بدون تطور مثل Métro d'Alger ولا “سيال” نخلق لهم ثم وسوء التسير الناتجة على الجزائريين . كيف تمشي الدول الثي تطورة بي سرعة قطر والإمارات !!!

  • جلال

    الطريق الى التنمية هى في خلق حلقات دراسة وتفكير واقتطاع ميزانيات وتكوين جيش من الباحثين والعلماء والمفكرين في كل مجالات الحياة وبعث البعثات السرية والعلنية للأخذ على الشرق والغرب واستعمال جميع الوسائل الؤدية الى ذلك.إننا لم نر بلدا أتت التكنولوجيا الى عقر دارها ووهبت لها وإنما عرقت وتعبت على إقتنائها والبحث عنها واليابان خير مثال على ذلك.أما إذا أردنا نستثمر في بحوث الراي والإبتكار في الحان وشباب فتلك C'est une autre paire de manches.

  • جبريل اللمعي

    التوجه الجديد في بعض الدول التي تعلمت من تجربة كورونا القاسية: مصنع للرقائق الاكترونية في خدمة الصناعات المحلية. من لي بمن يوصل هذا الكلام إلى مسامع النافذين؟