الرأي

في ذكرى الأستاد محمد فارح

نظم المركز الثقافي الإسلامي، أحمد حماني، بمدينة جيجل يوم الإثنين الماضي (4-12-2017)، ندوة وطنية للتذكير بمناقب أحد أبناء الجزائر البررة الذين أنجبتهم ولاية جيجل، وذلك بمناسبة مرور خمس سنوات على انتقاله من الفانية إلى الباقية، أعني الأستاذ الكبير، والكاتب القدير، والأديب واللغوي الخبير محمد فارح رحمه الرحمن الرحيم.

وقد شهد على هذه المناقب بعض من عرف الأستاذ محمد فارح في مراحل مختلفة من حياته العامرة، ومنهم الأستاذ سعدي بزيان، الذي زامل الفقيد في بداية الخمسينيات في معهد الإمام عبد الحميد بن باديس، والأستاذ حسن بهلول مدير الدراسات في المجلس الأعلى للغة العربية، وكاتب هذه الرقوم الذي عاش قريبا من الأستاذ فارح قرابة الأربعين عاما.. وكان لي أخا كبيرا، ناصحا أمينا، وصديقا مُعينا، كما شاركت في هذه الندوة حرم الأستاذ فارح، التي عرفته في السراء والضراء، ونجله فريد، وأخوه.. فكانت شهاداتهم من الداخل تأكيدا لما شهد به أصدقاؤه ورفقاؤه، إذ كثيرا ما يكون بعض الناس مع أصدقائهم ومعارفهم أبرارا، ويكونون مع أهاليهم وأقاربهم أشرارا.

وقد نشط هذه الندوة الأستاذ رابح زغدان، بعدما افتتحت بكلمتين طيبتين لكل من الأستاذ جمال بوحني، مدير المركز الثقافي الإسلامي، أحمد حماني، بجيجل، وهو غيور على أعلام ولاية جيجل، الساهر على تخليد ذكرياتهم كلما ساعدته الظروف والإمكانات، والسيد والي جيجل، الذي شهد أنه كان حريصا على قراءة تصويبات الأستاذ محمد فارح منذ كان تلميذا في إحدى ثانويات مدينة وهران.

وكان مبرمجا أن يحضر الندوة، ويدلي فيها بشهادته الدكتور عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذي زامل الأستاذ محمد فارح في معهد الإمام ابن باديس، ثم في التعليم، وفي الصحافة، وفي حقل الدعوة الإسلامية، وفي المجلس الإسلامي الأعلى في عهد رئاسة الشيخ أحمد حماني له. وما منعه من الحضور في هذه الندوة إلا أمر طارئ.

وقد حضر الندوة جمهور نوعي، فهناك السادة الأئمة، والسادة المعلمون والسيدات والمعلمات، والأساتذة والأستاذات، ولو أمكن لكل واحد منهم وواحدة منهن تناول الكلمة لشهد وشهدت بأنه وبأنها تعلم وتعلمت من الأستاذ محمد فارح عن طريق كتاباته في الصحافة، أو برنامجه في الإذاعة..

لقد أجمع المتدخلون على أن الأستاذ محمد فارح – وكلهم من أصدقائه – وما شهدوا فيه إلا بما علموا وعرفوا، فأكدوا أنه كان متفوقا في تخصصه، وممتازا في سلوكه الأخلاقي، وصادقا في وطنيته، وعميقا في تديّنه، وبسيطا في حياته، ذليلا على المؤمنين، عزيزا على المجادلين في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. لا يقول إلا الأحسن، ولا يفعل إلا الطيب.. يمتاز بالحلم والأناة، وهو شديد لا لأنه صرعة، ولكن لأنه يملك نفسه عند الغضب، كما قال سيدنا محمد، رسول الله، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ولا يثير غضبه ويستفزّ حلمه إلا شيوع اللحن في كلام المتكلمين أو كتابة الكاتبين خاصة إن كانوا أئمة أو معلمين أو صحافيين، لأنه يعتبر هذه الأصناف الثلاثة هم الذين يتعلم عنهم الناس.

لقد كنت أقول لمن يستفسرني عن الأستاذ محمد فارح إن أناسا يعلّمون الناس العلم أولا، والأخلاق ثانيا، وأناسا يعلّمون الناس الأخلاق أولا ثم العلم ثانيا وأناسا يعلّمون الناس العلم بلا أخلاق، وأناسا يعلمون الناس الأخلاق بلا علم، والأستاذ محمد فارح من الصنف الثاني أي أنه ممن يعلمون الناس الأخلاق أولا ثم العلم ثانيا.. فالأخلاق عنده مقدمة على العلم، لأن العلم غير المحصّن بالأخلاق قد يجني على صاحبه وعلى الأمة بكوارث قد لا تتجاوزها إلا عبد عشرات السنين.. وصدق القائل:

لا تحسبن العلم بنفع وحده   مالم يتوّج ربّه بخلاق

ولا شك في أن الأستاذ محمد فارح متأثر في ذلك بفلسفة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تحرص على تقويم النفوس بالأخلاق قبل تعليمها العلم، ولا شك في أن الناس يرون الكارثة التي حلّت بنا وبالأمة الإسلامية كلها لأن التعليم صار متقدّما على الأخلاق، فصرنا نرى ونقرأ أن “العالم” الفلاني خان الأمة، أو سرق، أو فسق.. ولن تصلح حالنا حتى نعود إلى التي هي أقوم، أي تعليم الأخلاق كسلوك، وليس كـ “علم”.

أنا مدين لما أنا فيه، بعد الله – عز وجل- المرفق لكل خير، إلى رجلين اثنين هما:

*) الأستاذ عبد الوهاب حمودة الذي شجعني على “القول” في بداية دراستي الجامعية في عام 1970.

*) والأستاذ محمد فارح الذي أخذ بيدي في مجال “الكتابة”، وفسح لي المجال في جريدة “الشعب” لأزاحم كبار الكتّاب والصحفيين. فلهما جزيل الشكل، وعليهما عظيم الرحمة والأجر.

إن الأستاذ محمد فارح هو أحد الذين قامت على كواهلهم المدرسة الجزائرية الأصيلة، حيث بدأ التدريس في بداية استعادة الاستقلال في مدينة سطيف، ثم انتقل إلى الجزائر العاصمة، وقد درّس في كل من المدرسة العليا للأساتذة، والمعهد الوطني العالي لأصول الدين بمدينة الجزائر.

وهو أيضا أحد الذين قامت على كواهلهم الصحافة الوطنية ذات اللسان العربي، ابتداء بجريدة “الشعب”، أم الجرائد الوطنية بعد استرجاع الاستقلال، إلى جرائد المساء، أضواء، الأصيل، العصر، الجزائر اليوم التي وأدها الذين يفسدون في الجزائر ولا يصلحون، ولا أدل على فسادهم من القبض على الأستاذ فارح سنة 1992، وما أنجاه من شرهم إلا جنود ربك الذين لا يعلمهم إلا هو…

رحم الله أستاذنا محمد فارح، وأفرغ صبرا على صاحبته أم أولاده، وعلى تلاميذه وصحبه، وشكرا للإخوة في مدينة جيجل، وفي مقدمتهم الأستاذ مدير الشؤون الدينية والأستاذ مدير المركز الثقافي الإسلامي، ونرجو أن يتحقق رجاء محبي الأستاذ محمد فارح بإطلاق اسمه على مؤسسة تربوية أو ثقافية، وأن تجمع آثاره وتنشر في الناس، لما لها من قيمة وفائدة. 

مقالات ذات صلة