-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في مدرسة الشيخ محمد الغزالي

في مدرسة الشيخ محمد الغزالي

في الشهر الثالث من كل سنة، تتجدد ذكرى فقيد الأمة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ويتجدد معها الوفاء لهذا العالم النحرير والمفكر الكبير الذي لم يترك ميدانا من ميادين الفكر إلا كتب فيه، ليس على شاكلة من يكتبون للترف الفكري بل على شاكلة من يكتبون، تحرّكهم نخوتهم العربية والإسلامية دفاعا عن شرف هذه الأمة التي ابتليت في تاريخها القديم والمعاصر بأبواق فكرية وإعلامية تصفق للباطل وترقص على أنغام نشاز تُصادم قيمها وتُناقض منهجها وتجافي تاريخها.
إن مسيرة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مسيرة حافلة بالإنجازات العلمية التي كانت ترجمانا للألم الذي يعتصره على ضياع مجد هذه الأمة بين ضباع ضارية خلا لها الجو فعاثت في المجتمع الإسلامي فسادا وملأته إثما ورجسا وسوقته للأمة على حين غفلة من أهلها على أنه قدرها المحتوم ومستقبلها المأمول الذي لا تتنازع بشأنه العقول. لقد ترك الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ميراثا دعويا وفكريا كبيرا، يغترف منه حملة الدعوة وحملة الفكرة على سواء، يجد فيه الداعية ضالته، ويجد فيه المفكر بغيته، ويجد فيه دعاة المسلمين عامة من العلم المنير ما يعينهم على أداء رسالتهم وترشيد أفكارهم وتجديد مناهجهم.
عرف الشيخ الغزالي في الأوساط الدعوية بأنه الداعية المجدد، لأنه من الدعاة الذين يؤمنون بأن الدعوة فكرة تتجدد مع العصر، تستوعب قضاياه وتستلهم من تراث هذه الأمة قديمه وحديثه وتمزج بينه لتخرج منه لبنا سائغا للشاربين. لقد انبرى الغزالي لصنف من الدعاة لم يفقهوا أصول الدعوة ولم يُحسنوا قراءة الواقع الإسلامي فأسفوا وضلوا وأضلوا وتحول بعضهم إلى دعاة على أبواب جهنم ونصب بعضهم الآخر أنفسهم أوصياء على الأمة فالقول ما يقولون والرأي ما يرون.
ما أحوج الأمة الإسلامية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها إلى فقه دعوي راشد كفقه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله وقد تحول فيه المتفيهقون إلى حملة فقه وتحول فيه الرويبضة إلى علماء يأخذ عنهم بعض الحمقى والمغفلين دينهم ويباهون بهم في المجالس، يوادُّون من اتَّبعهم ويخاصمون من خالفهم. لقد كانت للشيخ الغزالي مواقف مشهودة من هؤلاء الذين أفسدوا على الأمة الإسلامية دينها ودنياها فلا هم أقاموا الدين فسلموا وسلمنا ولا هم أقاموا الدنيا فغنموا وغنمنا. يقول الغزالي عن هذا الصنف العجيب الغريب في كتابه “علل وأدوية”: “.. ولا أزال أؤكد الكلمة الحكيمة: دين الله أشرف من أن يؤخذ من أفواه الحمقى، لا بد من محو هذه الفوضى الفكرية وإعادة الرشد إلى حياتنا الثقافية، وتمكين أولي الألباب من عرض الإسلام من دون تحريف ولا مغالاة ومن دون قصور ولا فوضى.. ليست الدعوة إلى الله عاطفة ساخنة، يتحرك بها شخصٌ ويستفز بها جمهورا، فربما كان فساد الأديان ناشئا عن مشاعر حارة وراء أفكار مرفوضة. يجب أن يكون الحق محور سلوكنا العامّ والخاص على سواء”.
صدق الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فكم كانت العواطف الجياشة والمواقف المتشنجة التي لا يحكمها ضابط من الشرع سببا في كثير من مآسينا الاجتماعية لأننا ابتلينا بأشباه دعاة ليس لهم فقهٌ في الدين ولا فقه في الدنيا، ديدنهم ترويج التفاهات وتزيين الضلالات وتحويل الخلافات المذهبية إلى مخالفات شرعية والانتقام من الآخر محاربا كان أَم مسالما، فقدّموا بذلك صورة مشوَّهة عن الإسلام الذي ينص كتابه على هذه القاعدة الأخلاقية الذهبية: “وقولوا للناس حسنا” (البقرة 83).
إن السبب الجوهري في هزائمنا الفكرية ماضيا وحاضرا –كما يقول الشيخ الغزالي- هو أننا ابتلينا بدعاة ومفكرين شغلوا الناس بالتوافه ووسموا غيرهم بالروافض وحشروهم في زمرة الجهم بن صفوان وادّعوا أنهم حماة السنة وحراس العقيدة وأنهم الفرقة الناجية والفئة المرضية وغيرهم سفلة مرقة لا يُؤخذ منهم عدلٌ ولا يُقبل لهم شهادة ولا يُرتضى لهم رأي.

إن السبب الجوهري في هزائمنا الفكرية ماضيا وحاضرا –كما يقول الشيخ الغزالي- هو أننا ابتلينا بدعاة ومفكرين شغلوا الناس بالتوافه ووسموا غيرهم بالروافض وحشروهم في زمرة الجهم بن صفوان وادّعوا أنهم حماة السنة وحراس العقيدة وأنهم الفرقة الناجية والفئة المرضية وغيرهم سفلة مرقة لا يُؤخذ منهم عدلٌ ولا يُقبل لهم شهادة ولا يُرتضى لهم رأي.

إن خدمة الإسلام لا يصلح لها إلا من استوعب مقاصد الشرع وفقه الواقع وسلك سلوك الإسلام في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن لم يستوف هذه الشروط تحوَّل -من حيث يريد أو لا يريد- إلى أداة طيّعة في يد خصومه، يوجهونه حيث شاؤوا، وفي المجتمع الإسلامي نُسخٌ كثيرة من هذه النماذج الرديئة التي يجب التعجيل بإبعادها وقطع شأفتها حفظا للدين وخدمة للشريعة من أن يتحوَّلا إلى وسيلة للمتاجرة في عصر نكابد فيه وضعا صعبا لا نُحسد عليه على كل الأصعدة الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية.
يجب أن يكون الحق -كما قال الغزالي- محور سلوكنا العامّ والخاص على سواء، إنها مَهمَّة شاقة وطويلة ولكنها ليست مستحيلة إذا استلمت النخبة زمام الأمور وأدت دورها المنوط بها في تنوير الرأي العام وترشيد العوام بخطر ما ارتكبه في حقهم متسللون إلى الحقل الدعوي لا تسمع لهم جعجعة ولا ترى لهم طحينا.
لا يمكن أن يصبح الحق محور سلوكنا العامّ والخاص على سواء -كما قال الغزالي– إلا إذا حققنا شروطا خمسة:
الشرط الأول: إسناد الأمر لأهله؛ فلا يتصدى للفتوى إلا عالم بالأحكام، ملمّ بمقاصد الإسلام، فالأمة مأمورة بسؤال أهل الذكر: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم تعلمون” (النحل 43). إن مخالفة هذا الأمر الإلهي هو السبب الجوهري في فوضى الفتوى التي نعيشها، إذ كثُر المفتون كثرة عجيبة وتقمَّص كثيرٌ من الجاهلين شخصية الإمام مالك والإمام الزهري رحمهما الله وليس لهم من فقههما أو فقه أحدهما ما يؤهّلهم للفتوى التي هي توقيعٌ عن الله كما قال ابن قيم الجوزية في كتابه: “إعلام الموقعين عن رب العالمين”.
الشرط الثاني: أن نتحرر من أهوائنا؛ فالفتوى في الدين لا تكون بالهوى بل بإتّباع من لا ينطق عن الهوى: “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” (الحشر 7)، وهذا الأمر الإلهي يشمل العلماء والعوام على حد سواء ويؤيده الحديث النبوي: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”. من المفارقة أن تجد بعض الذين ينتقدون من يسمُّونهم “أهل البدع والأهواء” يشملهم الوصفُ ذاته وإن اختلف الكيف.
الشرط الثالث: أن تعود الأمة الإسلامية إلى دورها الطبيعي، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملا بقوله تعالى: “ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله” (آل عمران 104)، فغياب سلطة الأمة وما تقتضيه من إجماع هو الذي سمح لبعض الرعاع –كما وصفهم الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله بتصدُّر المشهد الدعوي من غير أهلية فقهية أو فكرية.
الشرط الرابع: أن نتحرر من عقدة التفوُّق التي ابتُلي بها كثيرٌ منا إلى درجة أن بعض الدعاة المعاصرين حشر نفسه في عِداد العلماء الربانيين وهو لما يبلغ معشار ما بلغوا ولا شهد له العلماء العدول بذلك، إنما هي نرجسية أشبه بنفخة الديك الرومي الذي سرعان ما يعود إلى حجمه الطبيعي.
الشرط الخامس: لا يمكن أن يصبح الحق محور سلوكنا العام والخاص على سواء –كما قال الشيخ محمد الغزال – رحمه الله إلا إذا أصبحنا أهلا لتمثيل الإسلام، أقول هذا لأن بعضنا وربما جلّنا أصبح عنوانا سيئا للإسلام، فالإسلام يحتاج إلى نماذج رائدة على كل المستويات حتى تتحقق لها القابلية في الداخل وتتحقق لها المهابة في الخارج.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!