-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قررت أن أصبح كذابا!!

التهامي مجوري
  • 1490
  • 0
قررت أن أصبح كذابا!!

حدثتني نفسي بأن أصبح كذابا… ودخلت معها في نقاش، ولكن لا أحدثكم عن تفاصيل ما دار بيني وبينها وإنما يهمكم أن تعلموا أنني قررت أن أصبح كذابا.

لا شك أنكم تتساءلون كيف لرجل يقرر أن يصبح كذابا؟ ويعلن عن ذلك بلا حرج ولا تردد ولا خشية ولا حياء؛ لأن الكذب من العيوب التي لا تساهل معها، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن إمكانية ارتكاب الكثير من المعاصي، فلم ينف ذلك، ولكن عندما سئل عن الكذب، هل يكذب المؤمن؟ فقال: المؤمن لا يكذب.

لا أعطيكم دروسا في مفاسد الكذب وآثاره السيئة على الفرد والمجتع، ولكن ما حيلتي وانا في مجتمع أظهر سيماته الكذب، إلا من رحم ربك وقليل ما هم، وكما يقال في المثل الشعبي “ما يلزك للمر غير اللي أمر منو”، وترجمة هذا المثل الشعبي الجزائري، أن ما يدفعك إلى فعل ما تكره إلا ما هو أسوأ منه، ومن ثم فإن قراري بان أكون كذابا ليس قرارا من فراغ، وإنما ما دفعني إليه اسوأ من الكذب، وأحاول أن أعرض عليكم ما أعيشه ولا أشك أنكم تعيشون ذلك معي.

عندما تجد نفسك عاجز عن استدراج طفل في الأسرة إلا بكذبة! ماذا تفعل؟

وعندما لا تستطيع إرضاء زوجتك وكسب ودها إلا بالكذب، وأحيانا زوجتك تعرف أنك تكذب ولكنها تستعذب ذلك منك ويسرها أيما سرور أن ترضي غرورها! وعندما لا تتمكن من قضاء حاجاتك كلها إلا بالكذب، في البيع والشراء والإدارة والمدرسة ومع الجيران…، بحيث كلما أوغلت في الكذب اكتسبت عواطف الناس وتضامنهم! وعندما لا تقدر على رد أية مظلمة إلا بالكذب! وعندما تدرك أنك إذا صدقت في قولك وفي فعلك ستعاقب، وأول من يعاقبك الذي صدقت معه ولم تكذبه! في كل ذلك قل لي ماذا تفعل؟

هل تتمسك بقيمك ولو سقطت الدنيا كلها؟ أم أنك تدخل الصف وتصبح كذابا في مجتمع الكذابين، كما قررت أنا… اترك الإجابة إلى حين ولا تستعجلها، ولكن تابع معي لِمَ وقع كل هذا؟

لأن منظوماتنا كلها مبنية على الكذب، الوالد يكذب في الأسرة، والسياسي يكذب على الشعب، والأم تكذب على أبنائها وزوجها، الجار يكذب على جاره، والقريب على قريبه والصديق يكذب على صديقه… وهلم “جريا”.

ألم تلاحظوان معي أن الرجل في أسرنا المحافظة يرسل ابنه إلى من يسأل عنه بالباب ليقول له “مهوش هْنَا”؟ بل يقول له السيد الوالد “قلو ماهوش هنا”، يعني لا يترك لاجتهاد الطفل البريء يتصرف كيف يكذب، وإنما يملي عليه كيفية الكذبة الصحبحة!!

ألا تلاحظون أن مترشحي قوائمنا الانتخابية يكذبون في حملاتهم الانتخابية على الشعب ويعدونه بما لا يستطيعون؟ وعندما يُنْتخبون يجدون أنفسهم في نتائج كاذبة ومزورة في قليل أو كثير؟ ثم ألا ترون التاجر يكذب على زبائنه؟ والخاطب يكذب على خطيبته تمهيدا للكذب الأكبر الذي سيكون بعد بناء الأسرة؟ لكل هذا قررت أن أصبح كذابا!

وإذا لم تصدقني قارئي العزيز فانظر إلى مكانتك بين أفراد أسرتك، فأنت لا تساوي شيئا، قد تكون أستاذا جامعيا، وقد تكون قاضيا، وقد تكون رجل اعمال، وقد لا تكون كل ذلك ولكنك تتمتع بخبرة ومعرفة هائلة بالميدان الذي أنت فيه، وربما كنت مرجعا ومن الأعيان في محيطك، ولكنك في داخل البيت أنت لا شيء يميزك عن أهل الدار، إذا قلت شيئا يناقش ويحلل جيدا، وانت تسمع وترى بعيك، ولا تستطيع أن تقول شيئا عن خبرتك وتجاربك وعلاقاتك ومرجعيتك في أوساط الناس، وأنت الذي تغلبت على مشكلة بين زوجين، وفي مناسبة أخرى حللت مشكلة بين متخاصمين، أو حققت صفقة تجارية هامة…، كل تلك الخبرات تذهب أدراج الرياح، بينك وبين زوجتك وأبنائك، وبحكم أنك لا تستطيع دائما التنازل عن مستواك تجد نفسك مضطرا للكذب مجاراة للمأساة التي تشاهدها بعينيك، فتمر الأمور بكل فرح وسرور، أنت تتألم والقوم فرحون.

وما يقع لك في دارك، يقع لك بين أصدقائك، منهم من يحدثك بأمر ولكن يريد منك أن تعلق وتعطي رأيك فيه وفق ما يريد هو وليس وفق ما فهمت منه، وإذا صارحته بما تراه مناسبا وليس كما يريد، انتفض وكشر وأزبد وانفجر قولا وفعلا، ومنهم من يريد منك أن تحدثه عن كل شيء في حياتك، وإذا صادف وأن سمع من غيرك ما لم تصرح به له تغير وتلون وربما صارحك بقوله آه يا فلان ما كنت أظنك تخفي عني هذا الأمر، وهذا الأمر قد يكون خاصا جدا ولم تذكره لغيره إلا لضرورة، اما صديقك فلا تستطيع أن تقول له هذا أمر خاص… لأنه صديقك “موس واحد يذبحكم” ومنهم من يربط صداقته بك ما دامت مصلحته قائمة، وبمجرد أن يقضي مصالحه أو يراها انتفت من عندك انفض من حولك.

كل هؤلاء لا علاج معهم إلا الكذب عليهم، فالأول يمكن مجاملته بكلمة تجعله صاحب حق بالباطل، والثاني يمكن تسوق له كل يوم قصة من منجزاتك ومكاسبك التي حققتها وأوهامك التي تسوقك إليها خواطرك..، بحيث إذا سمع أي شيء من غيرك لا يصدقه، والثالث قدم له الأوهام الكبيرة وأدخله نفقا من المكاسب والمنافع والشهوات؛ بل والسراب الذي إذا جاءه لم يجده شيئا، ومع ذلك تبقى آماله معلقة على الأوهام التي تقدمها له.

وصاحب الفضل لا يكتفي بشكره على فضله الذي تفضل به عليك ذات يوم، وإنما ينتظر منك دائما تشعره بأنه صاحب فضل عليك… وأنت تشعر بأنك مكبل بذلك الفضل، فتضطر لتصنع ما لا تريد فعله مجاملة لصاحب الفضل وإلا نظر إليك على أنك ممن يكفرون النعمة، ومن الذين لا يقدرون الرجال، ولست من أهل الخير؛ بل إن من الناس من يعجبه الثناء عليه وهو ّأول من يعلم أنه ليس من أهل ذلك الثناء ومع ذلك يستحسنه…، قيل لرجل وكان من أهل الفضل حقيقة، ولكن بعض الناس يبالغون في الثناء عليه ومنهم من يذكره بما ليس فيه، فقيل له يوما لماذا تقبل من فلان ذكره من الفضائل ما ليس فيك؟ فأجاب إنه يشبع في نفسي ما لا يهتم به الآخرون!!

أما الكذب مع من يتقى فحشه، فكثير بكل أسف؛ لأن الفحش انتشر واستشرى في أوساط الناس حتى أنه تحول إلى أصل في التعامل؛ لأن الناس يعتقدون أن الفحش في القول والفعل هو الذي يخيف الغير، فاعتمده الناس ليحل محل نيل الحقوق واستبعاد الباطل، حتى أن المرء أصبح عندما يريد الكلام مع أي كان، يحاول اختيار الألفاظ والعبارات والأساليب التي لا تشعر المخاطب بالحرج، اتقاء لفحشه.

فالكذب إذن ضرورة حياتية! بحيث لا يخلو بيت من كذبة كل يوم أو أكاذيب! كما قد لا يكون خاليا من كذاب أو كذابين…، فاختفت “الكذبة البيضاء” التي كان الناس يستنجدون بها عندما كان الكذب بين الناس عيبا كبيرا ومخلا بأخلاق الرجل والمرأة، أما وقد استشرى الكذب وعم وبلغ هذا المستوى من التبني الاجتماعي له، فلم يعود الناس في حاجة إلى التستر بالكذبة البيضاء حتى يمررون أكاذيبهم، فهم اليوم في راحة من امرهم، يكذبون ولا يُسألون لِمَ تكذبون؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!