-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قرية بونعمان… المجد المنسيّ في منطقة القبائل

قرية بونعمان… المجد المنسيّ في منطقة القبائل

تلقيت دعوة من رئيس جمعية تنمية وتطوير قرية “بونعمان” ( بلدية زكري، ولاية تيزي وزو) لحضور حفل متواضع نظم يوم السبت 19 نوفمبر 2016م، بحضور السيد والي ولاية تيزي وزو، ورئيس دائرة إعزوڤن ورئيس بلدية زكري، وعدد معتبر من المجاهدين وأبناء الشهداء وضيوف كثيرين. والغاية هي لفت الأنظار إلى الغبن الكبير الذي لحق القرية طيلة نصف قرن من الاستقلال رغم مكانتها المرموقة في سِفر الثورة الجزائرية.

 وقرية “بونعمان” لمن لا يعرفها، تقع في أقصى شرق ولاية تيزي وزو، في موقع جبلي حصين وعْرٍ، تغطيه غابات كثيفة، عصيّ على الاختراق. ولهذه الاعتبارات اتخذت قيادة الولاية الثالثة التاريخية قرية بونعمان مقرا لها إبان ثورة نوفمبر التحريرية (1954- 1962)، وأقامت فيها مصحة وسجنا ومحكمة ومخزنا للمواد الغذائية، وغيرها من المرافق الأخرى.احتضن ساكنة قرية “بونعمان” ثورة نوفمبر1954م بقضّهم وقضيضهم، وخدموها بوفاء وإخلاص. عانى أهلها من ويلات الاستعمار،وبعد تخريبها اعتصمت عائلاتها بالغابات للاستمرار في خدمة الثورة، وهناك وضعت بعض النسوة أحمالها، ومن الأشخاص الذين ولدوا في أحضان الغابة،المغني الشهير” وَعْزيبْ مُحَندْ أمَزْيَانْ”.

     ليس من باب المبالغة إن وصفت قرية “بونعمان” بكونها سِفر الوطنية والبطولات والأمجاد ونكران الذات، وبأنها أرض مقدّسة مخضّبة بدماء الشهداء، ومروية بعرق الشعب، وبعبير المجاهدين. وذكر اسم ” بونعمان” كان يجعل فرنسا ترتعد من الرعب. لذا فمن باب الاحترام أن يدخلها الداخل بالوضوء كما المساجد. 

   بعد معاناة وتضحيات جسام، أشرقت شمس الاستقلال، لكن خيوطها لم تصل إلى “بونعمان”، فالزمن ربيع ضاحك في ربوع الجزائر، أمّا قرية “بونعمان”، فما زالت تحت وطأة صهد القيظ  وزمهرير الشتاء. نسيان كاد أن يلامس الخيانة!

    ألقيتُ نظرة عابرة إلى الجبال والغابات الكثيفة المحيطة بقرية “بونعمان”، وإلى أطلالها وإلى مظاهر الإهمال الجاثمة على صدرها بفعل الإنسان الكنود، فعجزتُ عن وصف قدسية المكان، عجزت عن وصف هول النسيان، لأن البيان لا يغني عن العيان، فقلت في نفسي لا تصلح في حضرة “بونعمان” إلاّ لغة أهل التصوف والعرفان التي تعتمد على الوصال بدل الاستدلال، فالنجدة حين تضيق العبارة عن وصف الفكرة، هي لغة الصمت. غمضت عينايّ لحظة بصيرة بحثا عن شريط ذكريات، فرأيتُ -فيما يشبه الصحوة- جحافل المجاهدين تملأ المكان، رأيت “مسبّلين” يدخلون “بونعمان” بقوافل من البغال والحمير ذات أحمال المواد الغذائية والأدوية، رأيت نسوة في النشاط هنّ كخلية النحل. ثم انتبهتُ من أحلام اليقظة بعد أن صفعني منظر “بونعمان” المزري. رغم مرور نصف قرن على استرجاع الاستقلال، فلا طريق معبّد، لا ماء شروب، لا كهرباء، لا مدرسة في قرية “بونعمان” مقر قيادة الولاية الثالثة التاريخية! فكيف سيكون الحال لو عاد الشهيد العقيد عميروش ليتفقّد مقرّ قيادته في عزّ الاستقلال؟  

    لا شك أننا سنضطرّ إلى تقديم الاعتذار برؤوس مطأطأة، إزاء الإجحاف الذي أصاب قرية بونعمان. معذرة أيّها الشهداء، معذرة أيّها الشعب، معذرة أيّها المجاهدون، معذرة أيّتها الأرض الطاهرة، معذرة أيّتها النسوة. فنحن في زمن غابت فيه الوطنية، والوفاء والقيم، نحن في زمن صارت فيه “الأمجاد” مجرّد شعارات تلوكها الألسن للمخادعة، نحن في زمن صارت فيه “البطولات” مجرد سجل تجاريّ لحصد المغانم.

    لكن رغم هول الحيف المنزل على قرية “بونعمان”، فالأمل قائم. ولعل تلبية السيد والي ولاية تيزي وزو “الجديد”، دعوة أهل القرية لحضور الحفل ( وهو أوّل والٍ يزور قرية بونعمان المنسية منذ الاستقلال)، وتأثرَه بما رآه من واقع مؤلم مرير، وما قدّمه من وعود معقولة، لعل ذلك كلّه يحمل البشرى. فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!  

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!