-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قصة الأوقاف في الجزائر

التهامي مجوري
  • 1786
  • 0
قصة الأوقاف في الجزائر

مع مطلع الألفية الثالثة أجريتُ حوارا مع الدكتور بوعبد الله غلام الله الذي كان وزيرا للشؤون الدينية حول الأوقاف، وفهمت منه يومها أن للأوقاف قصةً طويلة عريضة، ابتداء من وضعها خلال الفترة الاستعمارية ومرورا بالعهد الاشتراكي 1962/1978 ثم التنازل عن املاك الدولة بالدينار الرمزي في سنة 1981 وانتهاء بالشروع في الاهتمام بالأوقاف كقطاع له خصوصياته الدينية والاجتماعية والثقافية.

لا تزال الكثير من الأوقاف لم تُسترجع بعد؛ لأن الإدارة لم تستعمل جميع أدوات التحقيق للتعرف على الملاك الوقفية، التي لا تزال تحت سلطة الخواص أو مؤسسات أخرى استولت عليها في ظروف أخرى في العهد الاستعماري أو في إطار التأميم في عهد الثورة الزراعية أو في إطار التنازل عن أملاك الدولة، ولم تستعمل حقها في استرجاعه، والسبب أن الإدارة الوصية لم تتعامل مع الملك الوقفي كملك له خصوصية يجب عليها مراعاتها.

إن الأوقاف في الثقافة الإسلامية نشاط يجمع بين تقديم الخدمة الإجتماعية في شكل “حبس ملكية خاصة على جهة أو جهات معينة بقصد الانتفاع بها”، إذ تتحول هذه الملكية الخاصة إلى ملكية مستقلة عن صاحبها يعود ريعها على الجهة التي خُصَّت بالوقف عليها، فقراء ومساكين ومساجد وزوايا ومدارس ومستشفيات… وغيرها.

والأقاف قبل ذلك وبعده، إضافة إلى تقديم الخدمة للمجتمع، فيها شق تعبدي يتوجه به صاحب الوقف “الواقف” إلى الله سبحانه وتعالى كصدقة جارية تدرُّ عليه الأجر بعد وفاته كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له”. والصدقة الجارية تحصل بالوقف.

لقد كانت الأوقاف في العهد العثماني في الجزائر تغطي الكثير من الأنشطة الاجتماعية والثقافية؛ بل تجاوزت ذلك إلى التكفُّل ببعض خدمات مؤسسات الدولة، والتكفل بخدمات خارج البلاد مثل الخدمات المتعلقة بالطرقات والجند وأوقاف الحرمين… وقد كانت هذه الأنشطة الوقفية تمارَس في إطار المؤسسات الرئيسية التالية:

– أوقاف سبل الخيرات، وهي الفكرة التي أراد بعثها الدكتور سعيد شيبان رحمه الله في إطار مؤسسة المسجد، وتبنتّها الإدارة جزئيا. في نشاطات ضيِّقة جدا.

– أوقاف الحرمين الشريفين التي اختفت منذ العهد الاستعماري.

– أوقاف النازحين من الأندلس التي اختفت هي الأخرى منذ العهد الاستعماري.

– أوقاف الزوايا والأولياء والأشراف والمرابطين، والمساجد، ومنها وقف سيدي عبد الرحمن الثعالبي، وهي أوقاف لا تزال قائمة.

جاوزت هذه الأوقاف بأنواعها الأربعة، الأربعة آلاف وقف، مساجد وعقارات ومزارع ومدارس… في المدن الأربع الرئيسية، الجزائر، وهران، قسنطينة، وعنابة، وأكثر من ثمانين بالمائة من هذه الأوقاف كانت بين الجزائر العاصمة وقسنطينة، تقدَّر مداخيلها بمئات الآلاف من الفرنكات الذهبية.

ولما دخلت فرنسا غازية معتدية كان أول فعل تقوم به هو تأميم الأوقاف رغم تعهُّدها بالمحافظة عليها وعدم التعرُّض لها بموجب معاهدة تسليم مدينة الجزائر في 5 جويلية 1830، وقد صدرت مراسيم متتالية ابتداء من سبتمبر 1830 ترفع عن الوقف قداسته وخصوصيته، ومنها قرار على سبيل المثال صدر في 01 أكتوبر 1843 م، ينص على أن الوقف لم يعد يتمتع بصفة المناعة، وأنه بهذا القرار أصبح يخضع لأحكام المعاملات المتعلقة بالأملاك العقارية، الأمر الذي سمح للأوروبيين بالاستلاء على كثير من أراضي الوقف التي كانت تشكل 50٪ من الأراضي الزراعية، وبذلك تناقصت الأوقاف وشحت مواردها، وفي السنة الموالية ياتي قرار أكتوبر 1844؛ بل إن قرار كلوزال قبل ذلك المؤرَّخ في 07 ديسمبر 1830 أدى إلى إلحاق الأوقاف جميعا بأملاك الدولة الفرنسية، ومنحت التسيير لمصلحة أملاك الدولة.

وبعد الاستقلال سارت الأمور الوقفية على نفس المنوال، وذلك ربما لصعوبة الفرز والتفريق بين ما كان وقفا من غيره من الممتلكات العامَّة، ولكن صدور المرسوم رقم 283/64 المؤرَّخ في 17/09/1964م وهو المرسوم الخاص بنظام الممتلكات الوقفية، كان يقتضي أن تتَّجه السلطة صوب الاهتمام بالموضوع، عبر إحصاء الأوقاف وتعيينها وفرزها عن غيرها من الممتلكات العامَّة للدولة، ولكن ذلك لم يتم، وإنما استمرت الدولة الوطنية لا تفرِّق بين ما هو وقف وما هو ملكٌ عامّ؛ بل ما زاد الطين بلة، أن  الأمر رقم 71/73 الخاص بقانون الثورة الزراعية، اعتمدته الإدارة في تأميم الأراضي الوقفية، بالرغم من تأكيد المادة 34 منه على استثناء الأوقاف من عملية التأميم. واستمرت وضعية الأوقاف على هذا النحو، ثم ازدادت الأملاك الوقفية سلبية وتدهورا وضياعا بعد صدور القانون 81/01 بتاريخ 07/02/1981 الخاص بالتنازل عن أملاك الدولة، إذ  كانت الكثير من الملاك الوقفية محلات تجارية وسكنات وغيرها مستغلةً من طرف خواص، وربما عملوا على امتلاكها بموجب قرار التنازل عن أملاك الدولة؛ لأن الكثير من الممتلكات الوقفية لم يكن مفصولا عن الممتلكات العامة كما أسلفنا.

وبعد أحداث أكتوبر 1988 والتعديل الدستوري وإقراره بدستور 23 فبراير 1989، تم الاهتمام بالأوقاف وإقرار حمايتها، فصدر بناء على ذلك قانون 90/25 المتضمن التوجيه العقاري الذي صنف صراحة الأوقاف ضمن الأصناف القانونية العامة المعترف بها في الجزائر، وأكد أهمية الأوقاف بتخصيص وتأكيد استقلاليتها في التسيير الإداري والمالي للأوقاف، ثم كان قانون الأوقاف 91/10 بتاريخ 27 أفريل 1991 الذي أسند الحماية والتسيير والإدارة إلى السلطة المكلفة بالأوقاف وهي وزارة الشؤون الدينية والأوقاف والمرسوم التنفيذي 98/381  والمحدد لشروط إدارة الأملاك الوقفية وتسييرها وحمايتها وكيفيات ذلك,.

ورغم هذه التدابير القانونية المعبِّرة عن الاهتمام بالأوقاف، كقطاع له خصوصياته في إدارة الأملاك العمومية، فإنَّ الإدارة لا تزال تتعامل معه كما تتعامل مع الممتلكات العامة غير الوقفية، باعتباره قطاعا خاصا بالخدمة العمومية، أو مصلحة من مصالحها، مثل المساجد والعقارات التابعة لها، مثل سكن الإمام والمحلات المؤجَّرة والمنضخات المنشأة في بناءات المساجد، فهل السكنات التابعة للمساجد يسكنها الأئمة؟ وهل مداخيل العقارات الوقفية تُصرف في مضانها؟ أم أن إدارة الشؤون الدينية والأوقاف، تمارس وصايتها على القطاع، ولا تفرق بين عمالها، أئمة وموظفين، وريوع الأوقاف تُصرف في أجور العمال أو في صيانة المساجد لا يهم!

لا شك أن هناك جهودا بُذلت في إحصاء الأوقاف، فقد بلغت الإحصاءات الرسمية حوالي 10 آلاف ملك وقفي في سنة 2014، وحسب وكالة الأنباء الجزائرية فقد جاوز عدد الأملاك الوقفية الـ11 ألف ملك وقفي في سنة 2020، كما أن الاستثمار في الأوقاف قد خطا خطوات هامة، ابتداء من سن القانون 01/07 بتاريخ 22 ماي 2001 الخاص باستثمار الأملاك الوقفية.

لقد أنشئت تبعا لذلك مشاريع استثمارية وقفية، مثل بناء المركز التجاري الثقافي بوهران الذي تم تمويله من قبل مستثمر خاص على أرض وقفية، ومشروع بناء 42 محلا تجاريا بولاية تيارت، ومشاريع استثمارية بسيدي يحيى ولاية الجزائر، ومشروع استثماري بحي الكرام (مكايسي) ولاية الجزائر، ومشروع شركة طاكسي وقف… وإلى ما هنالك من المشاريع الهامة.

ولكن يبقى هناك تحفُّظٌ على كيفية تسيير الملك الوقفي من قبل الإدارة الوصية، فهي تتعامل معه بطريقة إدارية جافة بعيدة عن طبيعة الوقف ومهمته في حركة المجتمع والتنمية، سواء في عملية استرجاع الأوقاف القديمة أو في البحث عن إبقائها على ما وُقفت عليه… والبنسبة لاسترجاع الأوقاف، لا تزال الكثير من الأوقاف لم تُسترجع بعد؛ لأن الإدارة لم تستعمل جميع أدوات التحقيق للتعرف على الملاك الوقفية، التي لا تزال تحت سلطة الخواص أو مؤسسات أخرى استولت عليها في ظروف أخرى في العهد الاستعماري أو في إطار التأميم في عهد الثورة الزراعية أو في إطار التنازل عن املاك الدولة، ولم تستعمل حقها في استرجاعه، والسبب في تقديري أن الإدارة الوصية لم تتعامل مع الملك الوقفي كملك له خصوصية يجب عليها مراعاتها، فتكتفي بالتعرف على الوقف ولو كان خارج ما وُقف إليه، وهذا مخلٌّ بالموضوع؛ لأن الوقف له خصوصية أن يبقى على الوظيفة التي وُضع لها، اللهم إلا إذا عجزت الإدارة عن معرفة نية الواقف حينئذ يمكن للإدارة أن تتصرَّف وبمقدار.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!