-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الشروق العربي تزور "قصر موغل" ببشار

قصر فاضت أنفاسه ولم يبق منه إلا الأطلال

الشروق أونلاين
  • 6204
  • 5
قصر فاضت أنفاسه ولم يبق منه إلا الأطلال

قصر “موغل” بناء قائم وسور قلعة وعمران أدركته عدة قرون. القصور في الجنوب الجزائري ليست قصورا بالمعنى المتعارف عليه، بل هي تجمعات سكنية تقليدية يشكل القصر فيها وحدة معمارية سكنية اجتماعية. وكانت “موغل” التي ذاع سيطها في الآفاق وأدرك عمرانها أزمانا متباعدة، فتارة تغلبه وأخرى يغلبها، ولم تزل بين هبوط ونزول، وبين رقي وانحطاط، حتى فاضت أنفاسها الأخيرة ولم يبق منها إلا أطلال للدارسة وآثار بالية وأنقاض تنطق بما كان لها في الأزمنة الغابرة من الشأن والعمران والتاريخ.

يقال ادخل المناطق بأهلها وناسها ونحن فعلنا كذلك برفقة مرشدنا ودليلنا في منطقة الساورة “سي العربي” الذي استفسرنا منه عن معنى كلمة “موغل” الأمازيغية، أجاب بأن “موغل” مشتقة من كلمة اغيل والتي تعني تشييد الذراع. أردت أن أسقط هذا المعنى على ما أشاهده وأنا بعين المكان ربما كان يقصد بالذراع الأذرع ـجمع ذراع- المشيّدة وهي هذه الطرق الملتوية المنحنية التي توصل القصر بواحات النخيل المترامية بجانب القصر، كما استعنت بالعربية التي تجد لكلمة “موغل” تفسيرا ومعنى لشيء ضارب في القدم وضارب في التاريخ والماضي.

الجو كان لطيفا ونحن في قعر الصحراء وفي عز الحرّ، ما جعل مرافقنا يحسدنا على الحظ الذي جاء ومعه نسمات لطيفة اختارت صحبتنا. وبدأنا الجولة السياحية بالواحات المحاذية لقصر وشت به أوباده العمرانية التي لاتزال واقفة، تركته إلى حين وألهتني عنه أشجار النخيل الباسقات الشامخات اتجهت نحوهم في أذرع ممشاها ترابي وتحيط بها نصف أسوار حجرية تنتهي بأشكال مثلثية. واحة وارفة الظلال وبلح هنا وهناك ومسالك طالعة وهابطة ومطبات وحفر وجذوع نخل متمايلة ومتفتحة على حواف الممرات الضيقة لتشكل خيمات ظل وتستجد نسمات من تحت حر وأشعة شمس لافحة، وسط صمت موارب ورائحة فضول تنميها رائحة التراب المتطاير من الخطوات المندفعة. بعدها وقفنا لبرهة نتأمل المكان وامتد بصرنا حتى نهاية سد لجمع المياه ولم نستطع التوغل أكثر في هذه الواحات، لأنها ملكيات فردية ولا يمكن لنا ذلك دون إذن من أصحابها.. واحات مترامية الأطراف، يستفزك صمتها وهدوءها الموارب، تحس كم هي عنيدة تغالي وتتكبر ولا تبوح بسرها، كيف لها أن تفعل ذلك وأنت الزائر الضيف الذي لا يأبه إلاّ بأخذ صورة هنا وذكرى هناك؟

أخذنا الطريق باتجاه منارة استدليّنا عليها من خلال طريقة بنائها وهندستها، فهي جاءت في شكل عمودي متطاول تستنير فيها من خلال نوافذ صغيرة أو ما يسمى في “بشار” بـ”العوينة”، عوينات صغيرة وأغلقت من خلال تقاطعات لتشكل مثلثات متفاوتة الحجم. في صعود متواصل، اتجهنا ناحية قصر موغل في القدم، يحيط به سور عنيد صامد لم تهدّه الأيام والسنون لطالما أنه على قدر من المتانة وكأنه سورين في سور واحد ليضمن متانة وحصانة لما يحويه، يتطاول لينتهي بنتوءات منتظمة على شكل أسنان متباعدة. دخلنا بيميننا القصر من باب خشبي متين رغم بعض التشققات التي بدأت تنخر أسفله، ولست أدري لماذا تتآكل الأسوار دون الأبواب  !! . وأخيرا أنا في باحة القصر، تتسارع خطواتي يمينا وشمالا، الساحة الترابية التي تحفل ببئر حجرية وبعض أشجار النخيل التي كانت في شكل دائري، كما تجذبك ساعة ملتصقة بجدار القصر تخرج منه أعمدة حديدية في شكل رقاص، وهي تمتد تاريخيا إلى القرنين الرابع والخامس الهجري، وكانت بمثابة دليل للمارين والمتجمعين في ساحة القصر. بعدها بدأت نظراتي ترّكز على الهندسة المعمارية للقصر، الذي اعتمد في شد أسواره وجدرانه على التراب والقش ـ أسعف أشجار النخيل – والطمي والطين، المنازل كلها متشابهة، هذه الأسوار التي تغلف هذه المساكن في شكل طابقين ذات أروقة تحيط بالساحة المكشوفة، أما الطابق الثاني من المساكن كان مرفوعا على ساريات أو ما يعرف بالأعمدة من الطابق الأرضي إلى الطابق العلوي، وجاء الطابق الأرضي في شكل أقواس متناسقة. وأنت تتوغل داخل قصر موغل تستوقفك نماذج للأزقة القديمة، وكيفية بناء الجدران التي لها سمك معين يمكّنها من التكيف مع حرارة الصيف وبرودة الشتاء. مشينا في أروقة ملتوية في شكل خط منحني وتفضي في كل نهاية إلى فتحات في السقف في شكل مربع وهي شكل آخر لما يسمى بـ”العوينة” التي تساعد على دخول الهواء وإنعاش الغرف، وكذا تعد مصدرا للإضاءة. أما ما يميز أبوابها أنها جاءت قصيرة ما يجبرك على الانكماش طولا أو التقزم، حتى تتمكن من دخول البيت، وهو تصميم مقصود لإعطاء فرصة لصاحب المنزل كي يستقبل ضيفه بعد أن يطمئن على سترة وحشمة أهل البيت، وهذا لضمان الحرمة المعروفة عند العرب. بعدها اتجهنا قبالة “المسجد القديم بموغل” كما تشير لذلك بطاقة علقت عند مدخل الباب الكبير للمسجد، وهو من الداخل يبدو أكثر متانة وصلابة من المنازل المتواجدة بالقصر، ما يظهر أنه رمم منذ فترة قصيرة، وقد ركزت عمليات الترميم على السقف، والجدران والدعامات والأقواس التي تتدلى من الأسقف وبقيت الأرضية غارقة في التراب، ويحاذي المسجد بئر للوضوء، ولإرواء العطشى الذين يتخذون من المسجد استراحة للصلاة وتجديد الطاقة. بعدها ساحة أخرى يبدو منها القصر وأنه لايزال رصينا ووضعه بقي على ما كان عليه يوم إنشائه، وتكشف أبنيته عن إتقان ودقة في التصميم واهتمام في الهندسة، هذا القصر المسكون بالصمت والرهبة يتمتع بتاريخ عريق، ويمكنك أن تجد فيه معالم حضارية تعود إلى العصور القديمة، وبالطبع كل هذا يحتاج لدراسات آثار متخصصة. تجمع لمساكن في شكل تراكمي متماسك فيما يشبه أكداسا من الحجارة التي انهار بعضها وبقي بعضها صامدا بتحفظ، والشيء الملفت هو صمود أسقفها التي تعتمد على جذوع النخل وكذا سعفها من الداخل، وخليط من الطين والقش إلى الخارج.


خطوات مغبرّة وسلم يهتز تحت أرجلي لينذرني بعدم مواصلة التقدم أماما نحو السطح الذي يفضي إلى الأعلى، أين المنظر بهيج جدا، إذ تستقبلك أشجار النخيل المتطاولة الشامخة وهي مرصوفة تتدلل في انسجام بحركة أنيقة لأوراقها، مشكلة فسيفساء جميلة، نحن الآن على السطح الذي صممت الأيادي حافاته بسنّات طينية وبعضها في شكل مثلثي متناسق، وفي أحد أركان السطح هناك استقرت غرفة صغيرة بباب طولي ورسمت بالطين نجمة وهلال، أما عن هندسة وتصميم هذه الغرفة التي كانت تتطاول عن طريق مثلثات على أسس هذه الغرفة وتتوسط السقف نتوءة في شكل بيضاوي وكأنها قبة وكأني بالغرفة مزارا لأحد أولياء أو أعيان المنطقة. ولكن عندما تقرب  من هذه الغرفة تجدها تفضي مباشرة لسلالم هابطة لغرف المسجد الذي تكلمت عليه منذ قليل، إنها إذن مئذنة “المسجد العتيق بموغل”، نزلنا بحذر شديد بعد أن كان السطح يتحرك من تحت أقدامنا، وينذرنا بأنه لم ينس أننا “ضيوف قصر موغل”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • جزائري له رأأأأأي

    قصر موغل له سحر خاص بنايات رغم قدمها الا انها تصارع الزمن يحس من يزور المكان انه انتقل به الزمن الى بعيد تشعر بطمأنينة نادرة و خاصة بين النخيل و المياه التي تنساب وتمر بالحوض لتعبر كل الواحة وكأنك في قطعة من الجنة بلدنا جميلة وساحرة وهناك اماكن كثيرة لا نعرفها وعلى القائمين على السياحة والثقافة ان يهتموا اكثر بالامر

  • الاسم

    الاهتمام بالتراث و الاحساس باهميته و قصصه امور للاسف بعيدة كل البعد عن لعرب و ثقافتهم'ان كان لديهم ثقافة' خاطيهم

  • عين العفريت

    انا ادلكم علي من يكفله و هم خريجو الجامعة من شباب و شابات لكن يتم بناء بنئات تحوي غرف و مطبخ و ادارة صغيرة و موقف لسيارات و الحافلات يتم توجيه الطلبة كلية الاثار في مرحلة التطبيقي ليشتغلو باءثمان بخسة ما ان ينهو عهدتهم التطبيقية بدلناهم باءخرين جدد و هكدا تستفيد الدولة و الطالب بشهادته و نكونو قوما يعرفون كيف يصنعون الحياة

  • الاسم

    هذا الامر يقع على عاتق وزارة الثقافة التي تهتم بالصرف بالملايير المطنطنة على الحفالات الغنائية في حين تراثنا المادي يمحى بالتدريج بسبب الاهمال

  • جزااااااااااائررررية حقة

    مشاء الله على ولايتي